اتسعت حيرة الأوساط الاقتصادية المصرية بشأن الارتفاع الغريب لسعر صرف الجنيه، الذي قفز مقابل الدولار بأكثر من 6 بالمئة خلال شهرين فقط. ويخشى محللون وجود أهداف استعراضية حكومية خلف هذا الارتفاع، الذي يمكن أن يقوض أوضاع المستثمرين في البلاد.
القاهرة – شهدت سوق صرف العملة بمصر مؤخرا ارتفاعا مريبا في قيمة الجنيه أمام الدولار مؤخرا، وسط تبريرات رسمية بزيادة التدفقات الدولارية، وارتفاع الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي إلى مستويات قياسية جديدة.
ووصل سعر الدولار في الآونة الأخيرة إلى أقل من 17 جنيها، بعد أن استقر لأشهر طويلة عند حاجز 17.7 جنيه.
وبلغ حجم احتياطيات البلاد من العملة الصعبة نحو 44.2 مليار دولار بنهاية أبريل الماضي، وساهمت في بناء معظمه تسهيلات من دول الخليج وقروض مؤسسات دولية.
وتشمل الأموال دفعات قرض مساندة برنامج الإصلاح الاقتصادي من صندوق النقد الدولي، بلغت نحو 10 مليارات دولار، وتنتظر القاهرة صرف آخر دفعة بقيمة ملياري دولار.
كما تضم نقود الاحتياطيات الأجنبية السندات الدولية التي أصدرتها القاهرة في أسواق الدين الخارجية وقروض صناديق التمويل العربية.
وتبلغ قيمة الاحتياطيات القابلة للتحويل إلى سيولة نقدية نحو 26.3 مليار دولار، وفق بيانات فبراير الماضي الصادرة عن البنك المركزي، أما باقي الاحتياطي فهو أوراق مالية وذهب.
وتضيف سياسة بناء الاحتياطي بالاقتراض جدلا جديدا لمنظومة سعر الصرف، لأنها تدفقات لم تأت من فوائض إنتاجية أو فورة في صادرات البلاد، الأمر الذي زاد من الضبابية لدى شرائح المستثمرين.
وكشف الميزان التجاري لمصر، خلال النصف الأول من العام المالي الحالي، عن فجوة قيمتها 19.3 مليار دولار، بسبب زيادة الواردات إلى نحو 33.5 مليار دولار مقابل صادرات بنحو 14.2 مليار دولار.
وتتصاعد المخاوف من إمعان القاهرة في شد عزم الجنيه أمام الدولار مما يبعث رسائل قلق للمستثمرين تزيد من حالة ترقبهم لمناخ الاستثمار، قبل ضخ استثمارات جديدة في هذه السوق، والتي أصبحت لا تشهد استقرارا في منظومة سعر الصرف.
وأكد مستثمرون لـ”العرب”، أن ما تشهده الساحة حاليا يعكس إصرار القاهرة على شد الدولار لمستويات منخفضة في السوق دون مبررات اقتصادية مقنعة.
وقال مصطفى إبراهيم نائب رئيس مجلس الأعمال المصري الصيني، إن “الساحة الاقتصادية تنتظر زيادة أسعار الكهرباء والمحروقات في يوليو المقبل”.
وأشار لـ”العرب” إلى أن السياسة النقدية في مصر تأمل في جر الدولار لمستويات متدنية بهدف السيطرة على وتيرة ارتفاع الأسعار المرتقبة مع زيادات أسعار الطاقة.
وأعلنت وزارة الكهرباء والطاقة عن زيادة أسعار الكهرباء بنسب تصل إلى نحو 15 بالمئة في المتوسط، مع فاتورة شهر يوليو المقبل.
وأبقت لجنة السياسات النقدية بالبنك المركزي على سعر الفائدة على الإيداع والإقراض لليلة واحدة الخميس الماضي دون تغيير عند مستويات 15.75 بالمئة و16.75 بالمئة على التوالي.
واستبعد أيمن أبوهند عضو الجمعية المصرية للاستثمار المباشر، دخول استثمارات أجنبية مباشرة إلى مصر الفترة القادمة نتيجة عدم استقرار سعر العملة.
وأوضح لـ”العرب” أن الانخفاض الذي يشهده الدولار غير منطقي، فمعدلات الصادرات والاستثمارات الأجنبية لم تنمُ بشكل ملموس، وهي قطاعات جاذبة للعملة الأجنبية بشكل مباشر، كما أنه لم يطرأ أي جديد على أسعار السلع والخدمات، بل واصلت اشتعالها في السوق المحلية.
17 جنيها سعر صرف الدولار في الفترة الأخيرة بعد أن استقر لأشهر عند حاجز 17.7 جنيه
وأظهر الحساب الرأسمالي تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 2.8 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من العام المالي الحالي مقابل 3.7 مليار دولار بمقارنة سنوية، ما يزيد من حالة الريبة التي يشهدها سعر صرف العملة المصرية.
ويعكس ذلك تراجعا في معدلات الإنتاجية وانخفاضا في القيمة المضافة للمواد الخام المستوردة من الخارج، ما أدي إلى تضخم الأسعار بشكل يفوق قدرات المستهلكين.
وطالب أبوهند المسؤولين بالكشف عن الأسباب الحقيقية لارتفاع الجنيه إلى أكثر من 112 قرشا خلال شهرين، في حين لم تطرأ تغيرات جوهرية على مؤشرات الاقتصاد الكلي تعزز قوة الجنيه في سوق الصرف.
ووضعت القاهرة قيودا على استيراد السلع غير الأساسية بهدف تخفيف الضغط على البنوك في تدبير العملة الأجنبية، ما يؤدي إلى انخفاض الطلب على الدولار، فضلا عن تعقيدات في تسجيل الشركات التي تقوم بالتصدير للسوق المصرية، وفق قرار لوزارة الصناعة والتجارة، يلزمها بالتسجيل لدى الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات.
ووصف عدد من المستثمرين هذه الإجراءات بأنها تقود إلى سعر صرف مدار وليس حرا، حيث أن هذه القيود تكبل قوى العرض والطلب وتؤثر على آليات حريتها.
ورأى محمد أبوباشا، محلل الاقتصاد الكلي بالمجموعة المالية هيرميس، خلال تصريح لـ”العرب” أن ارتفاع قيمة الجنيه مؤشر إيجابي للمستثمرين، ويبرهن على عدم وجود ضغوط على العملة أو مشاكل تواجهها.
وأرجع صعود الجنيه إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية من خلال سوق الدين، واعتبر أن ارتفاع قيمة العملة المحلية منطقي، لأن غالبية الدول النامية، ومنها مصر، تأثرت إيجابا بعدم رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة منذ بداية العام الجاري، مع توقعات التثبيت حتى نهاية العام، ما يعزز التدفقات الأجنبية إلى البلاد.
وألغى البنك المركزي آلية ضمان تحويل أموال الأجانب في ديسمبر الماضي، ويمكن للمستثمر تحويل أمواله للخارج من خلال البنك الذي يتعامل معه مباشرة دون قيود.
وتعود هذه الآلية إلى 2013 عندما قرر محافظ البنك المركزي الأسبق هشام رامز، تفعيل آلية جديدة لتحويل الأموال من خلال البنك، بهدف تعزيز ثقة المستثمرين الأجانب في السوق المصرية.
واستبعد أبوباشا تأثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما تشهده سوق الصرف حاليا، لأن تلك الاستثمارات لا تراهن على التغيرات اللحظية للعملة، وتراهن على مدى أبعد يمتد لعامين على الأقل لتقييم سوق الصرف.
وتلوح في الأفق عودة سوق سوداء لصرف العملة مجددا، حال استمرار وتيرة تراجع الدولار في السوق المصرية أمام الجنيه، حيث سيدفع الهبوط حائزي العملة الأميركية إلى الاحتفاظ بها كمخزن للقيمة، وسط توقعات بارتفاعها مجددا.
وتعد تحويلات المغتربين من أهم روافد البلاد من العملة الأجنبية، وسجلت خلال النصف الأول من العام المالي الحالي نحو 12 مليار دولار، مقابل 12.9 مليار دولار بمقارنة سنوية.
وتضاءل هذا الرقم قبل تحرير سعر صرف العملة في نوفمبر 2016، حيث دفعت أسعار الصرف غير الحقيقية إلى ظهور “مافيا” تحويل الأموال، كانت تقوم بشراء العملة الأجنبية من المغتربين وفق أسعار تتجاوز ضعف الأسعار الرسمية، وبدأت تسلك تحويلات المصريين السوق الموازية للعملة.
وحذر ولاء حازم خبير أسواق المال والاستثمار، من مغبة التدخل في منظومة سعر الصرف لأنها تقود إلى عودة “الدولار الأسود” للبلاد.
وقال لـ”العرب”، إن تفادي عودة السوق السوداء للعملة لن يتم إلا من خلال إتاحته بشكل كبير في البنوك وتغطية خطابات الضمان للمستوردين، مع التركيز على مصادر تضمن استدامة تدفق العملة الأميركية إلى مصر من خلال زيادة موارد السياحة والصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة.
العرب