لم ينقطع سيل التسريبات والتوقعات والتكهنات عن ماهية صفقة القرن وبنودها منذ أن أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كان أحدث تلك التسريبات ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت عن إتمام تفاهمات بين الرئيس الأميركي ونتنياهو وملك الأردن والرئيس المصري، وترمي هذه التفاهمات إلى إنهاء القضية الفلسطينية من خلال إقامة دولة فلسطين الجديدة في سيناء وترحيل الفلسطينيين إليها، إضافة إلى منح الجنسية الأردنية لمليون فلسطيني يقيمون في الأردن، بينهم 300 ألف فلسطيني غزّي الأصل، وكذلك تجنيس اللاجئين الفلسطينيين في البلدان التي يوجدون فيها، كسورية ولبنان، مقابل أن تسهم الولايات المتحدة وإسرائيل في تحسين ظروف تلك الدول اقتصادياً وسياسياً.
وكانت صحيفة إسرائيل اليوم، المقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والتي خصها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأكثر من لقاء معه، قد نشرت ما قالت إنه نص وثيقة متداولة في وزارة الخارجية الإسرائيلية، حول عناصر خطة صفقة القرن للتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويتضح من الوثيقة أنه سيتم إنشاء دولة فلسطينية سيادية في غزة وفي الشريط الساحلي الشمالي لسيناء بعمق 720 كيلومتراً، وأنه سيتم إقامة منطقة صناعية بسيناء لخلق فرص عمل تستوعب الآلاف من سكان قطاع غزة، وكشفت الصحيفة أنه لن يكون هناك أي إخلاء للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة المحتلة، وأن الوضع الإداري في القدس سيبقى على ما هو عليه من حيث تبعيتها لبلدية دولة الاحتلال، ما يعني بقاءها تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية المطلقة، أما فيما يتعلق بسكان القدس الفلسطينيين فإنه من المتوقع – بحسب ما توحي الوثيقة – أن يتم سحب هوياتهم المقدسية وبالتالي إلغاء حق وجودهم في مدينتهم المقدسة وربما يمهد ذلك في وقت لاحق لطردهم وترحيلهم من القدس وإفراغها بشكل تام من الفلسطينيين.
وسواء أكانت تلك التصريحات صادقة في مضامينها أم أنها لجس النبض وقياس ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والدولية، إلا أنه بات من الواضح أن هناك شيئاً ما يجرى تنفيذه تحت مسمى فلسطين الجديدة ويستهدف الشعب الفلسطيني الموجود في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي دول الشتات، ومن السذاجة بمكان الاطمئنان للنوايا الأميركية والإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالحق الفلسطيني، والواقع وخلاصة سنوات من التفاوض مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قد رسخت القناعة بأن إسرائيل لا يمكن أن تعطي للفلسطينيين أي شيء مهما كان بسيطاً أو أن تعترف حتى بأدنى حقوقهم، وقد عمدت الإدارة الأميركية منذ تولي ترامب رئاستها إلى إزاحة ملفات الوضع النهائي والتي تمثل الثوابت الفلسطينية الراسخة عبر الزمن من على طاولة التفاوض الإسرائيلية الفلسطينية، من خلال خطوات متتالية كانت أولاها الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وتلاها وقف تمويل وكالة الغوث الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين “الأونروا”، وهي بمثابة الدليل القائم والشاهد القوي المعترف به دولياً على الحقوق السياسية والقانونية للاجئين الفلسطينيين، وطالبت الإدارة الأميركية إسرائيل بالتضييق على أنشطة الوكالة وخصوصاً في مناطق الضفة المحتلة وأوعزت كذلك لدول عربية بالتوقف عن دعم الأونروا بالأموال لصالح اللاجئين الفلسطينيين في محاولة جادة لتصفير خدماتها، ورافق ذلك إعلان إدارة ترامب عن نيتها الاقتصار على الاعتراف بحوالي 10% فقط من اللاجئين الفلسطينيين المعترف بهم دولياً، أي نصف مليون فلسطيني فقط من بين نحو ستة ملايين فلسطيني لاجئ في دول العالم كافة، وذلك في ظل إنكارها الواضح والصريح لحق العودة، ما يعني عمليًا إغلاق ملف اللجوء الفلسطيني وإسقاط صفة اللاجئ عن الفلسطينيين.
تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل وكافة الطرق إلى إنهاء الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين وتطمح إلى تهجير السكان الفلسطينيين منها بطرق ناعمة لا تثير ضجة أو بلبلة في المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية والقضائية، للوصول إلى دولة يهودية بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين على أراضيها، ولن تكون الدولة الفلسطينية الجديدة إلا جسماً هلامياً ليس له كيان حقيقي ولن يفضي لسيادة أو استقلالية وسينحصر النظر إلى الإنسان الفلسطيني من زاوية الاحتياجات الحياتية والاقتصادية بعد تجريده من حقه القانوني في العودة وسلبه حقوقه السياسية كلاجئ، ولن تتوقف إسرائيل عن ممارسة الضغط على الفلسطينيين في كافة مناطق وجودهم في أرض فلسطين التاريخية من أجل دفعهم لمغادرة ديارهم والبحث عن مناطق أكثر استقراراً وأوفر حظاً في فرص العيش الكريم، وستعمل في حال تم إنفاذ مشروع فلسطين الجديدة على الترويج في ما يخص سكان قطاع غزة بأن سيناء هي مركز الحياة الغزية وأنها أكثر ملاءمة وتلبية لحاجات الغزيين من قطاع غزة وستسعى بالتدريج إلى إخلائهم من غزة حتى تصل إلى تطهير عرقي تام لهم منها، ونفس السيناريو سيتم تنفيذه مع فلسطينيي القدس وفلسطينيي أراضي الـ48 والضفة المحتلة التي سيتم ربطها مع الأردن وسيزاحون بالتدريج باتجاه الاستقرار في المملكة الهاشمية ودول الطوق.
الواقع العربي المتردي والمتهافت على نيل رضى أميركا والمتسارع إلى تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال بشكل علني فاضح لا ينبئ بالخير للشعب الفلسطيني، وخاصة فيما يتعلق بالإنسان الفلسطيني وحقوقه المشروعة، ومن المتوقع أن تنفذ الدول العربية ما تمليه عليها الإدارة الأميركية من إجراءات وقبولها توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها مقابل حزمة من الامتيازات الاقتصادية والسياسية، لتنهي بذلك حقبة الصراع مع دولة الاحتلال وتُغلق مسألة اللجوء الفلسطيني وتُسقط حق العودة، وهي من أكثر ملفات الصراع تعقيداً، من دون أن تكون هناك حلول حقيقية منصفة تراعي البعد السياسي والقانوني والإنساني المترتب على اللجوء الفلسطيني والمنصوص عليه في القوانين والأعراف الدولية منذ بداية النكبة الفلسطينية، وعلى ما يبدو أننا، وبمباركة عربية وصمت وتواطؤ دولي، على أعتاب نكبة جديدة تحل بالشعب الفلسطيني وتجهز على ما تبقى من قضيته وحقوقه.