أشغلنا الرئيس الأميركي دونالد ترامب في رمضان، مدفوعا من صقوره المتطرفين بالبيت الأبيض وعلى رأسهم مستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير خارجيته مايك بومبيو، عبر تحرشاتهم المتدرجة المستمرة بإيران، وأدخلوا المنطقة في أجواء من التوتر والقلق وأعادوا إليها الأجواء ذاتها التي توترت في رمضان قبل عامين من الآن، بفعل غير سوي وعاقل من ثلاثي خليجي، حين فرضوا حصارا بريا وجويا وبحريا على قطر، في سابقة لم تشهدها المنطقة.
دخلنا الشهر الكريم وأجواء التوتر تسود المنطقة وتزداد، مع نذر حرب جديدة تتصاعد، بعد حرب تصريحات نارية بين إدارة ترامب وطهران، لتتشنج الأجواء بشكل أعمق حين بدأ ترامب في استعراض عضلاته العسكرية وإرسال البوارج والأساطيل إلى الخليج، من خلال بيان مباشر من بولتون في سابقة غير معهودة في التاريخ العسكري للولايات المتحدة، بحسب ما صرح به غريغ ثيلمان المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية لمجلة “فورين بوليسي”، إذ قال إنه “اصطدم ببولتون عندما كان يعمل تحت إمرته قبل غزو العراق”.
وأضاف في تعليقه: “لم أسمع بأن ذلك حدث أبدا، إنه أمر غير مسبوق أن يقوم مستشار للأمن القومي باستخدام سلطته لإرسال هذا البيان، هذا لم يحصل حتى في غزو العراق”.
طهران تتجهز
ثم تتسرب بعد ذلك معلومات استخباراتية أن طهران تجهز لسلسلة عمليات ضد المصالح الأميركية ومصالح حلفائها، وأن واشنطن ستتعامل مع ذلك بحزم وقوة إن تعرضت مصالحها أو مصالح حلفائها في المنطقة لأي تعد أو إضرار.
لم تمر سوى أيام قلائل على تلك التسريبات حتى تأزمت الأمور أكثر بحادثة تخريب أربع ناقلات نفط قرب ميناء الفجيرة الإماراتي، دون أن يتبنى أحد عمليات التخريب تلك -ما عدا تأكيد بولتون على دور إيران- لتتبعها بأيام قليلة تفجير مضختي نفط لشركة أرامكو في العمق السعودي بواسطة سبع طائرات مسيرة تابعة للحوثيين، ليضع العالم يده على قلبه خوفا من انفجار يوشك أن يقع بالمنطقة، يعيدها إلى سنوات الحرب الكارثية بين العراق وإيران، وقصف ناقلات النفط بالخليج في الثمانينيات من القرن الفائت.
وما بين تنوع وتزايد التجهيزات العسكرية الأميركية، تستمر حرب التصريحات الصحفية بين العاصمتين، حزما بحزم وتشددا بتشدد.. لكن لوحظ أن الرئيس ترامب أو رجل الأعمال -إن صح التعبير- بدا عليه الحنين إلى أيام التجارة وممارسة دور رجل الأعمال الذي يرغب في بضاعة ما دون أن يُظهر تلك الرغبة للآخرين، وهو في الوقت ذاته لا يريد أن يخسرها أيضا.
حيث شاب تصريحاته نوع من الدبلوماسية والتهدئة المتدرجة، وأنه ربما أمام مشهد كوري شمالي جديد، وأنه أمام خصم لا يختلف كثيرا عن الكوري الشمالي العنيد أو حتى الفنزويلي المقاوم الثائر، وأنه ليس بوداعة من هم على الجانب الآخر من ضفة الخليج!
إعلان من اليابان
من اليابان، أقصى شرق العالم، يعلن ترامب أنه لا يرغب في تغيير النظام الإيراني، ولا يريد إلحاق الأذى بإيران، ولا يريد أن يرى الفظاعات، وأنه بالإمكان التفاهم مع القيادة الإيرانية الحالية لبناء دولة عظيمة، وأن رئيس الوزراء اليابان وبحكم علاقاته الطيبة مع الإيرانيين، يمكنه أن يقوم بدور فاعل مؤثر في هذه الأزمة.. فماذا تعني كل تلك التصريحات أو الإشارات أو الذبذبات الترامبية؟
تلك الذبذبات وفق قاموس السياسة والمصالح، تعني أن ترامب لا يريد حروبا يخسر فيها جنودا، وقد كانت إحدى وعوده الانتخابية التي اختاره الأميركان بسببها: الالتزام بسحب القوات الأميركية من أماكن التوتر في العالم، وعدم خوض حروب جديدة إن كان بالإمكان كسب أي جولات أو معارك بالدبلوماسية والسياسة.
كما أن ذبذباته التي أطلقها من طوكيو تعني أنه يمد يده للسلام مع إيران ورغبته الجادة في لقاء مع القادة الإيرانيين الحاليين، من أجل حلحلة الكثير من القضايا العالقة بين المعسكرين. ودليل جديته ورغبته في ذلك، أنه بشكل غير مباشر طلب من اليابان القيام بهذه المهمة، لقناعته بالدور والتأثير الياباني الإيجابي على القرار الإيراني الذي وإن بدا ظاهريا أنه متصلب مع ترامب، فإنه يتحرك بمنطق الدولة التي تعطي الأمور حقها من الدراسة والتأني قبل اتخاذ القرار، وخصوصا أنهم خبراء في التفاوض ويمتازون بالصبر وطول النفس.
هكذا أرسل ترامب رسائله وترك أمر استقبالها وفك شفرتها أو ترجمتها للرادارات الخليجية والإيرانية.. فأما الإيرانية، فيبدو أنها استلمت الذبذبات وترجمتها من فورها، وأرسلت من جانبها على الفور أيضا رسائل واضحة لترامب -والعالم كله يراقب- بأنها قوة إقليمية لا ترضى أن تُعزل وتعيش على هامش الأحداث، وأن بيدها عوامل استقرار وأمن أخطر وأهم مناطق العالم.
قمم مكة
أما الطرف العربي في الخليج -السعودية والإمارات والبحرين- الذي تحمس كثيرا في جلب الجبروت الأميركي بقصد استخدامه ضد إيران، فقد تأخر كثيرا في ترجمة وتفسير ذبذبات ترامب، ولم تكن سرعته تقارن بسرعة الطرف الإيراني.
إن كل ما قام به الطرف الخليجي حتى الآن هو انتظار ما ستسفر عنه القمم الثلاث التي دعت السعودية إليها من نتائج وتوصيات، وهي على كل حال ستكون متأخرة، وعلى الأغلب ستكون موجهة ضد إيران، وهذا أمر يمكن القول فيه إن ترامب ربما تجاوزه وكذلك الطرف الإيراني، وهما نحو البدء بالتفاهم أقرب!
أحسبُ ختاما أن الأمور بعد كل هذا ستراوح مكانها كما الآن. حيث أجواء اللاحرب واللاسلم. وسيحاول كل طرف أن يستفيد من عامل الوقت.
ترامب يريد أن يخرج سريعا بمكسب سياسي خارجي قبل حلول موعد الانتخابات، فيما طهران تحاول أن تلعب على حبل التفاوض والأخذ والرد لحين موعد تلك الانتخابات، على أمل أن يخسر ترامب ويخرج من المشهد، ليأتي من يعيد الأمور إلى ما كانت عليه، أو إن فاز واستمر في المشهد، فسيكون حينذاك لكل حادث حديث.
المصدر : الجزيرة