مكة المكرمة – فاجأت السعودية قطر وأربكت موقفها الرسمي حين وجهت لها دعوة للمشاركة في القمم الثلاث التي تحتضنها مدينة مكة المكرمة، ما وضعها أمام تحدي توضيح موقفها أمام القمة بشأن الخطر الإيراني، فضلا عن دفعها إلى المربع الأول عبر رسائل ملتبسة تزيد من عزلتها بدل إنقاذها.
ورغم أن الدعوة إجراء بروتوكولي وروتيني يشمل الجميع، فإن الدوحة كانت تراهن على أن القيادة السعودية لن توجه لها الدعوة، ما يسمح لها بتحريك أدواتها الإعلامية للتباكي بشأن تغييبها عن تظاهرة دبلوماسية دولية كبرى، وإعادة الاشتغال على صور المظلومية والمقاطعة.
وعملت وسائل الإعلام القطرية على إطلاق تسريبات بشأن عزم الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على المشاركة في قمم مكة المكرمة، لكن حين تم توجيه دعوة رسمية له فضل أن يتراجع عن المشاركة وأوكل المهمة لرئيس الوزراء الشيخ عبدالله بن ناصر بن خليفة آل ثاني.
وقالت وكالة الأنباء القطرية (قنا) إن رئيس الوزراء القطري الشيخ عبدالله بن ناصر بن خليفة آل ثاني غادر الدوحة متوجها إلى السعودية لترؤس وفد قطر في قمم مكة.
وفيما كانت الدوحة تتوقع أن يتم “تغييبها” عن المشاركة، وتستعد لإشغال معزوفة التباكي والمظلومية، بات عليها الآن أن تواجه تناقضاتها من خلال هذه المشاركة، فهل ستكون مع إيران أم ضدها، وهل ستكف عن الإيحاء بالأدوار المتناقضة.
ويقول متابعون للشأن الخليجي إن أمير قطر فضل التغيب عن القمة الطارئة لمجلس التعاون الخليجي، والقمة العربية الطارئة، والدورة الرابعة عشرة لمؤتمر القمة الإسلامية والتي ستعقد بمكة المكرمة، خوفا من تكرار سيناريو قمة تونس، حيث بدا الشيخ تميم بعيدا عن الأضواء، الأمر الذي اضطره إلى الانسحاب غير المفهوم من تونس، ثم الظهور لاحقا للقول إن السبب يعود إلى التزامات بجدول أعماله.
وليست العزلة وحدها هي السبب المباشر لغياب الشيخ تميم، فهناك تحدّ أكبر كان على أمير قطر لو شارك أن يجيب عنه، هو الموقف من أنشطة إيران الإقليمية، والتي هي محور القمم الثلاث، وسط توقعات بأن يرفع البيان الختامي لهذه القمم من سقف نقده لإيران والدعوة إلى تحالف أوسع بوجه أنشطتها.
وما عاد الخطر الإيراني خافيا ولا يمكن لقطر الدفاع عن تقاربها مع الإيرانيين بعد الهجمات على ناقلات النفط والتضامن الدولي الكبير مع السعودية والإمارات، وبعد الحشود الأميركية التي يستقر جزء كبير منها في قواعد أميركية بقطر.
ولن يكون هامش المناورة هذه المرة ممكنا، خاصة أن قطر ستجد نفسها وجها لوجه مع الولايات المتحدة ودول الخليج ولفيف واسع من دول عربية وإسلامية باتت مقتنعة بضرورة التحرك للحدّ من التمدد الإيراني وتهديده لأمن الملاحة، وكذلك الأمن القومي لدول إقليمية مثل اليمن وسوريا والعراق ولبنان والبحرين، وهو ما يعني أن قطر ستكون مضطرة في قمم مكة أن تحدد موقفها وأن تكف عن السير على الحبال المختلفة.
وجدد برايان هوك المبعوث الأميركي الخاص بإيران التأكيد في مؤتمر صحافي، الخميس، أن الولايات المتحدة سترد باستخدام القوة العسكرية إذا هاجمت إيران مصالحها.
وأرسلت الدوحة رئيس الوزراء، وهو رسميا المنصب الثاني بعد الأمير، لتقول إنها حاضرة، ولكنها لا تريد أن تقدم أوراقها بالاعتذار عن سلوكها السابق ومكابرتها. وكانت هذه المشاركة خجولة وبعيدا عن الأضواء وتعيد إلى الأذهان الوقت الذي كانت فيه قطر “تتنمّر” على القمم العربية وتفرض شروطها، وكان رئيس وزرائها الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني يمارس التهديد والوعيد بحق الدول المشاركة.
ويرى المتابعون للشأن الخليجي أن وجود وفد قطري رفيع في مكة المكرمة بمناسبة القمم يفرض على الدوحة، إن كانت راغبة في كسر أسوار عزلتها كما دأبت على الترويج لذلك، أن تبادر إلى إثبات حسن النية عبر خطوات عملية تستجيب للشروط التي طلبت منها منذ سنتين سواء ما تعلق بإيران أو تركيا أو الإرهاب.
ولا يبدو أن القيادة السياسية في قطر تخلصت من نفوذ دوائر الشدّ إلى الوراء، وعلى العكس، فهي كما لو كانت تخطط لمنع أي نتائج لمشاركة الشيخ عبدالله بن ناصر في القمم الثلاث، بل وتعمدت وضعه تحت الضغط والإحراج من خلال تزامن هذه المشاركة مع مناورات جوية قطرية في تركيا، وهي تعرف حساسية المسألة في السعودية بسبب الحملات التركية المغرضة على المملكة في قضية الصحافي المقتول جمال خاشقجي.
ونشرت وسائل إعلام قطرية الخميس صورا لقوات جوية قطرية في ختام مشاركتها في تمرين “عنقاء الأناضول”، بحضور وزير الدفاع التركي خلوصي أكار. وقالت إن التمرين شمل عدة تدريبات منها الإسقاط الجوي في المناطق الجبلية، والطيران المنخفض في الأودية وغيرها من التدريبات.
واستمرت قطر في إرسال إشارات ملتبسة بعد أن أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الواجهة العلنية للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، بيانا حث فيه القمة (في تلميح للسعودية) على “تجنيب المنطقة حربا مدمرة”، و”رفع الحصار عن قطر”.
وبدا أن البيان يهدف، وبشكل مدروس، إلى ضرب هذه المشاركة وتحويلها إلى أزمة جديدة في سجل الدبلوماسية القطرية وتوسيع الهوة مع دول الجوار بدل السعي إلى جسرها، وذلك من خلال إثارة ملفات داخلية خاصة بالدول المعنية، وبطريقة استفزازية عن طريق قناة الجزيرة.
ويعتقد محللون أن مشاركة قطر في قمم مكة، وأيا كانت درجة التمثيل فيها، كشفت عن أنها المعطل الرئيسي لفتح ملف أزمتها مع دول المقاطعة، وأنه بدلا من البحث الطويل عن الوسطاء والتحرك على أكثر من جبهة لإثبات المظلومية، كان يمكن لها أن تستثمر رمزية مكة المكرمة، وحجم المناسبة الدبلوماسية والتركيز الإعلامي والدولي عليها، بمبادرة عملية أو موقف لافت يظهر حسن النية والرغبة في تطويق أزمة استمرت لأعوام.
العرب