عن دبلوماسية القوة العسكرية الأمريكية ضد إيران

عن دبلوماسية القوة العسكرية الأمريكية ضد إيران

الهدوء النسبي الذي خيم مؤخرا على الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران، وتراجع لغة التهديد والوعيد في تصريحات الطرفين، تزامنا مع تحركات أطراف وسيطة تسعى لفتح مسار للحوار بعيدا عن لهجة التصعيد التي سادت في أروقة الإعلام والسياسة.فبعد نحو أسبوعين من انخفاض منسوب التهديد المتبادل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وتراجع الخيار العسكري في المنطقة، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو استعداد واشنطن لمباشرة محادثات غير مشروطة مع طهران، ليكون الثاني بعد رئيسه ترامب الذي دعا الأخيرة من العاصمة اليابانية طوكيو للجلوس إلی طاولة المفاوضات. وتأتي دعوة بومبيو من سويسرا -راعية المصالح الأميركية في إيران- بعد تأجيل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العقوبات الصارمة على قطاع البتروكيماويات الإيراني، بحسب ما نقله للصحيفة “أشخاص مطلعون”، في إطار سعي الإدارة الامريكية لتخفيف حدة التوتر المتصاعد مع إيران.

التأجيل  جاء بعد تصاعد حدة التوتر بين طهران وواشنطن خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد اتهامات أمريكية لإيران بأنها كانت على الأرجح تقف وراء عمليات تخريب، استهدفت ناقلات نفطية قبالة سواحل الإمارات، وما تبع ذلك من خطاب شديد اللهجة من قِبل الرئيس ترامب تجاه إيران، عندما قال إن إيران ستنتهي رسمياً إذا ما قررت شن هجمات على المصالح الأمريكية في المنطقة.

وتعد البتروكيماويات ثاني أكبر الصادرات الإيرانية بعد النفط الخام، وسبق أن أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أنها تخطط لفرض عقوبات على قطاع البتروكيماويات الإيراني.القرار الأمريكي القاضي بفرض عقوبات على قطاع البتروكيماويات كان من شأنه أن يلحق مزيداً من الضرر بالقطاع الاستراتيجي الإيراني، ويُدخل اقتصاد طهران في أزمة أعمق، على حد قول الصحيفة الأمريكية.

جاء الرد الإيراني من الخارجية سريعا ومفاده أن “معيارنا الأساسي هو السلوك الأميركي على الأرض وليس تصريحات السياسيين”، لكن الرئيس روحاني کما كان متوقعا اشترط “الاحترام المتبادل” للتفاوض مع واشنطن، مؤكدا أنه “لا تفاوض دون ذلك”.وقال روحاني الذي رفع شعار “الحوار والتفاوض لحل المشاكل العالقة” إبان حملاته الانتخابية، إن واشنطن هي التي غادرت مائدة التفاوض “ويجب أن تعود دولة طبيعية”، رافعا بذلك سقف الحوار معها عاليا، بينما استبعد وزير خارجيته إجراء أي مفاوضات مع أميركا.
في غضون ذلك، أشار الجنرال يحيی رحيم صفوي المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني إلی أن “السفن العسكرية الأميركية في الخليج تقع في مرمى صواريخنا”، مضيفا أن ترامب يدرك جيدا أنه سيخرج خاسراً من أي حرب سيشنها على إيران، وأن القوات المسلحة الإيرانية علی أهبة الاستعداد للرد علی أي اعتداء.

من جانبه أکد الحرس الثوري في بيان بمناسبة الذكری السنوية لرحيل قائد الثورة الإسلامية الراحل الإمام خميني، أن إيران لن تستسلم أمام الحظر والضغوط، وأن هذه المرحلة التاريخية الحساسة ستمر، واصفا النظام الأميركي بأنه “فرعوني ودكتاتوري”. وبينما اعتبر وزير الدفاع الأسبق الجنرال أحمد وحيدي أن التفاوض مع أميركا غير عقلاني ومستحيل، قال مساعد القائد العام للجيش الإيراني الأميرال حبيب الله سياري إن التفاوض حول القدرة الصاروخية الإيرانية غير ممكن أبداً.

لا أحد يريد حربا ضد إيران. لا واشنطن ولا عواصم المنطقة ولا عواصم العالم ولا طهران طبعا. ما يصدر رسميا حتى الآن عن رأس السلطة في الولايات المتحدة لا يشي بأن واشنطن تدفع، خصوصا الرأي العام الداخلي، باتجاه تنظيم حملة عسكرية على شاكلة تلك التي ضد يوغسلافيا السابقة وضد أفغانستان وضد العراق.لا أحد في إيران يريد حربا، أو على الأقل حربا مباشرة ضد إيران في حدودها الجغرافية. بإمكان جنرالات الحرس الثوري أن يهددوا ويتوعدوا ويهوّلوا، بإمكان أحدهم أن يعدنا بهزيمة الولايات المتحدة واندثارها ويبشرنا آخر بزوال دولة إسرائيل، إلا أن تلك الجلبة لا تخفي ارتباكا داخل منظومة القيادة الإيرانية، بوليها ورئيسها ووزير خارجيتها، تستبعد الحرب، وتسعى لإقناع الإيرانيين وطمأنتهم أن لا كارثة قادمة على إيران.

في بيروت أيضا يعلن الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أن لا حرب قادمة وأن العدو يعجز عن شنّ تلك الحرب. غير أنه يستطرد صارخا في ما بعد، على نحو يتناقض مع نبوءته الأولى، أن أي حرب ضد إيران ستشعل المنطقة برمتها. وأيا كانت وجهة التهديد والوعيد فإننا وحتى انجلاء ضباب هذه المرحلة سنشهد حربا نفسيا وتصريحات نارية تخفف من الضجر المحيط بواقع المراوحة التي قد تتسم بها الأزمة بين واشنطن وطهران.

القمم الثلاث في مكة المكرمة -الخليجية والعربية والإسلامية- أظهرت إجماعا داعما للموقف السعودي وتأييدا للموقف الأميركي حيال إيران. تبدو إيران فاقدة لبيئة دولية وإقليمية حاضنة، وتبدو ممعنة في الغرق في عزلة تسحب أي غطاء يمكن لطهران التعويل عليه في جهودها للخروج من مأزقها الحالي.

بدا واضحا أن الصين وروسيا لا يمكن أن تتخذا موقفا داعما لطهران ضد مزاج دولي بات عاجزا عن التعايش مع الواقع الإيراني وفق النسخة المعمول بها منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، وبدا أن الاتحاد الأوروبي على شفير التضامن مع الموقف الأميركي إذا ما انسحبت طهران في اتفاق فيينا النووي الموقع عام 2015.

لا شيء يشي بنشوب الحرب. حتى ذلك القصف الصاروخي الذي يطال أهدافا إسرائيلية والرد من إسرائيل مستهدفا مواقع داخل الأراضي السورية، لا يؤشر إلى فوضى عسكرية، بل تبادل رسائل حذرة شديدة الانضباط تُبقي التوتر في حدوده المنخفضة. حتى أن تأملا حثيثا للصراع في وجهه العسكري يقود إلى استبعاد اندلاع الحرب عن طريق الصدفة أو الخطأ، ذلك أن أطراف الصراع حريصون على عدم التهور، ممسكون تماما بتفاصيل المشهد العسكري في المنطقة على النحو الذي لا يؤدي إلى الصدام الكبير المباشر. والحال أن اللغة الطاغية هي لغة المفاوضات. بدا أن هذه الكلمة تزدهر هذه الأيام بغض النظر عما إذا كانت مجوفة فارغة من مضمون حقيقي، أو أنها تعبر عن ورشة تحضير خلفية لطاولة مفاوضات قادمة لا محالة.

من جانبه، يستبعد أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران محمد مرندي إجراء أي مفاوضات -مباشرة أو غير مباشرة- بين إيران وأميركا في الظروف الراهنة، مؤكدا وجود وساطات من قبل أمیركا تقوم بها بعض الأطراف، حيث أبلغتها طهران شروطها للحوار مع واشنطن، وهي عودة أميركا إلى الاتفاق النووي، وتنفيذها جميع التزاماتها في إطار الاتفاق.ويشير مرندي إلی أن أميركا ارتكبت خطأ في التقدير، إذ ظنّت أن النظام الإيراني سينهار من الداخل إذا مارست عليه الحد الأقصی من الضغوط، أو أن طهران ستخضع لإملاءاتها، مؤكدا أن واشنطن لم تخمّن جيدا مدی ردة الفعل الإيراني، وهذا ما جعلها تتراجع عن التصعيد، لكن التراجع الأميركي لم يعد کافيا لدی الجانب الإيراني.

ويعتقد أن إيران تعتبر الجلوس إلی طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية يضر بمصالحها القومية، وهو بمثابة تقديم تنازل لدی الطرف الآخر، علاوة علی أنه يشجع واشنطن علی انتهاك المعاهدات الدولية، ناهيك عن التذبذب في السلوك الأميرکي.
ويضيف الأكاديمي الإيراني أن الجانب الإيراني قدم تنازلات جمة خلال المفاوضات النووية، لكن أميرکا نكثت بالاتفاق، مؤكدا أن طهران تتجه نحو تجميد عدد أكثر من بنود الاتفاق النووي ردا علی الانسحاب الأميركي منه وفرضها حظرا جائرا علی الشعب الإيراني.
وعن زيارة رئيس الوزراء الياباني المزمعة الأسبوع المقبل إلی طهران، يقول مرندي إنه مما لا شك فيه أنها تأتي في إطار مباحثات الرئيس ترامب في طوكيو، وعبر عن قناعته بأنها لن تؤدي إلی عدول إيران عن مواقفها السابقة.
ويشير إلی أن التراجع الأميركي أثبت للرأي العام عدم جدية واشنطن في تهديداتها لطهران، وأن أميركا تخشی خوض حرب مع إيران بسبب کلفتها الباهظة.
ويرى أن هناك علاقة مباشرة بين التصعيد الأميركي الأخير ضد إيران وصفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، ويقول إن إشعال فتيل الحرب الأميركية في المنطقة سيلحق الضرر بمنشآت النفط والغاز، وسيؤدي إلی إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وإن إغلاق مضيق هرمز سيكون جزءا صغيرا من الرد الإيراني.

 ويرى المتابعون للشأن الإيراني  أن الوساطات وتبادل الرسائل بين واشنطن وطهران تمضي علی قدم وساق، مؤكدا أن “أمیركا تسعی جاهدة لتغيير قواعد اللعبة والتفاوض معنا، وهذا ما لا نرغب فيه”. وأن إيران اشترطت عودة أميركا إلی الاتفاق النووي ورفع الحظر الأميركي للحوار معها، مضيفا أن واشنطن “تريد الحوار معنا مقابل خفض التصعيد وإبعاد شبح الحرب من المنطقة”، دون تنفيذ الشروط الإيرانية التي تصر عليها طهران. وأن رسالة أميركية مفادها أن ترامب علی استعداد لإبعاد جون بولتون مستشاره الأمني المعروف بالعداء للجمهورية الإسلامية، ويقول “لا نثق بأميركا، ونعتقد أن ترامب يريد ورقة التفاوض مع طهران ليستغلها في حملته الانتخابية عام 2020”.

كما يعتقدون أن إيران لن تخوض مفاوضات جديدة مع أميركا حتی تعود الأخيرة إلی الاتفاق النووي، مهما مهدت واشنطن لفتح مسار المفاوضات، لكن في الوقت ذاته لا يستبعد أن تلبي إدارة ترامب الشروط الإيرانية وتعبد الطريق أمام مفاوضات جديدة، علی غرار ما شهدناه قبيل توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
تغريدات وقراءات
وعلى منصات التواصل الاجتماعي، تفاعل العديد من الإيرانيين مع دعوة بومبیو للحوار مع طهران دون شروط مسبقة، ففي تغريدة له على تويتر كتب مدير المرکز العربي للدراسات الإيرانية محمد صالح صدقيان “يبدو أن الوساطة بين طهران وواشنطن وضعت على السكة؛ سويسرا واليابان على الخط. الأربعاء المقبل رئيس الوزراء الياباني في طهران.. يقال إن ترامب وافق على كتابة رسالة خاصة للإمام الخامنئي سيحملها الياباني.. طهران ما زالت تصر على رفع العقوبات قبل أي حوار.. والاتفاق النووي أولا”.

وبينما اعتبر البعض أن خفض التصعيد الأميركي ينم عن خشية واشنطن من استهداف إيران سفنها الحربية، تحدّث البعض الآخر عن احتمالية عودة أميركا إلى الاتفاق النووي وإجراء مفاوضات في بلد ثالث. وهناك من أشار إلی رفض طهران شروط واشنطن الـ12 للتفاوض معها عام 2018، معتبراً أن صمود إيران أمام الابتزاز الأميركي آنذاك أدی إلی تراجع إدارة ترامب عن مواقفها تجاه إيران.

 يصرّ خامنئي على عدم تفاوض إيران تحت الضغط، لكن تاريخ الجمهورية الإسلامية يشير إلى عكس ذلك. ففي الماضي، عندما كانت الضغوط الخارجية تتنامى إلى حدّ كبير وتعرّض الاستقرار المحلي للخطر، كانت القيادة الإيرانية تبحث عن وسيلة للتخفيف منها ومن التكاليف المرتبطة بها. وهذا ما حصل عندما قررت إنهاء الحرب مع العراق عام 1988، ووقف اغتيال المنشقين في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي عند تهديدها بالعقوبات، وعرضها تسويةً نووية في عام 2003 بعد ثلاثة أسابيع من هزيمة الجيش العراقي على يد القوات الأمريكية حين خشي الإيرانيون أن يكونوا هم التاليون، وفي عام 2012 عندما وافقت إيران على التواصل مع الولايات المتحدة عبر قنوات خلفية بعد أن عملت إدارة أوباما على تشديد العقوبات على المصرف المركزي الإيراني وتوقّف الأوروبيون عن شراء النفط الإيراني.

فهل نشهد تكرار هذا السيناريو مع إدارة ترامب؟ إنّ الحكمة السائدة هي أن الإيرانيين يريدون انتظار انتهاء فترة رئاسة ترامب والتعامل مع خلفه. وهذا ما يفضّله خامنئي بشكل شبه مؤكد، لكن الكثير يتوقّف على مقدار الصعوبات الاقتصادية التي يعتقد أنه يمكن للشعب الإيراني تحمّلها.

وإذا شعر خامنئي بأنه يجب عليه أن يخفف الضغط، وأن يختار الدخول في مفاوضات، فمن شبه المؤكد أن تكون المحادثات غير مباشرة – فالمحادثات المباشرة ستكون بمثابة اعتراف بالهزيمة. ومن شأن استخدام وسيط على غرار فلاديمير بوتين أن يلقى قبولاً من الزعيم الروسي وترامب على السواء.

ولكن ما نوع الاتفاق الذي سيكون ترامب على استعداد لإبرامه؟ من المستبعد أن يكون ذلك بناءً على شروط وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الإثني عشر للتفاوض: فالإيرانيون يعتبرون أن هذه الشروط تساوي طلب تغيير النظام. وخلال زيارته إلى اليابان، كان ترامب واضحاً بقوله إنه “لا يسعى إلى تغيير النظام”. عوضاً عن ذلك، صرّح بأن هدفه هو “نزع السلاح النووي”، مما يترك مجالاً للمناورة. لكن في الحقيقة، يبدو أن المعيار الوحيد الذي يعتمده ترامب لأي اتفاق هو ذلك المطبّق على معظم المسائل الرئاسية: يجب أن يكون الاتفاق أفضل من ذلك الذي أبرمه أوباما.

وقد يتمثل أحد التحسينات الواضحة في «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تمديد “بنود الغروب” التي تحدّ من قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم لتمتدّ، على سبيل المثال، من عام 2030 وإلى عام 2045. ومن شأن هذه الخطوة أن ترجئ أي تهديد إيراني نووي محتمل إلى مرحلة بعيدة في المستقبل. إلا أنها لن تتعامل مع التهديدات الإقليمية الناتجة عن مساعي إيران لتوسيع انتشارها وتعزيز أساليبها القسرية ضد الأنظمة العربية وإسرائيل. وسيتطلب هذا الأمر إقناع إيران بالحدّ من تواجدها العسكري في سوريا والتوقّف عن تزويد «حزب الله» وغيره من وكلائها في لبنان وسوريا بالقذائف والصواريخ الموجّهة بدقة.

لكن الإيرانيين لن يقدّموا هذه التنازلات مجاناً، إذ سيسعون إلى رفع كافة العقوبات، النووية منها وغير النووية. وقد يتطلب ذلك من ترامب اختيار حجم التنازلات التي هو مستعد لتقديمها. فأوباما لم يكن مستعداً لرفع العقوبات المرتبطة بحقوق الإنسان والإرهاب. ومن المرجح أن يتردد ترامب في القيام بذلك أيضاً. ومع ذلك، فقد يخلُص إلى أن كسب الوقت (15 عاماً إضافياً) وخفض احتمالات اندلاع حرب إقليمية في غضون ذلك هما إنجازان مهمان بحدّ ذاتهما. أما المفارقة الكبرى فهي أن أقصى قدر من الضغط، كما يمارسه كل ترامب وخامنئي، قد يدفعهما في هذا الاتجاه – شرط ألا يؤدي سوء التقدير بهما أولاً إلى قيادتهما نحو نزاع أكبر.

واشنطن تسعى بكل ما تملكه من أدوات الضغط أن تجبر طهران للجلوس على طاولة المفاوضات بناء على الشروط التي وضعها بومبيو وزير خارجيتها وبدون شروط مسبقة من طهران، فبحسب معلومات خاصة حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، تحاول واشنطن اقناع دول دائمة العضوية في مجلس الأمن اصدار بيان شديد اللهجة ضد إيران اذا ربطت التحقيقات بشان اعتداءات الفجيرة والاعتداء على أرامكو ومحاولة استهداف السفارة الامريكية في بغداد، بضلوعها بها، فإن صدر هذا البيان بما ينسجم مع التوجه الأمريكي، فأنه من حق الدول المعتدى على منشآتها النفطية والدبلوماسية والاقتصادية رفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية ضد إيران، الأمر الذي سيترتب عليه دفع تعويضات مالية كبيرة جدا لتلك الدول.

إذن ما يشهده العالم من تجييش لحاملات الطائرات والأساطيل البحرية من الغرب قاطبة باتجاه الخليج العربي ومضيق باب المندب ومضيق هرمز والاستنفار في معظم القواعد الأمريكية في المنطقة، ما هو سوى عملية ضغط تجاه إيران لجرها نحو مفاوضات بصيغة جديدة لتكون بديلاً عن الاتفاق النووي 5+1 بين إيران والغرب، لتصير إلى اتفاق ثنائي 1+1 بين إيران وأمريكا وبشروط جديدة. لن تكون هناك حملة عسكرية شاملة وكما شاهدها العالم بهدف إسقاط الأنظمة، وكما حدث في العراق ومن بعده ليبيا بسنوات، فليس هدف الغرب إسقاط النظام الإيراني، والذي أطلقوا هم أنفسهم يده في عواصم عربية عدة وصنعوا نفوذه فيها بهدف الفوضى ومزيد من التقسيم خدمة لمصالحهم.

غاية ما هناك هو إجبار إيران للزحف نحو مفاوضات ثنائية بينها وبين أمريكا وبوساطة روسية نظراً للمصالح المتقاطعة بين الأطراف الثلاثة، فالعامل الروسي له أهمية كبيرة نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطه مع إيران منذ الثورة الإيرانية. إن كل ما يجري وما سيجري مستقبلاً لن يخرج عن إطار التفاهمات الضمنية بين واشنطن وموسكو، والتي غايتها الحد من النفوذ الإيراني في سوريا مستقبلاً في ظل بقاء الأسد في السلطة، والذي لن يمثل مشكلة ذات أهمية في ظل سلطته الشكلية الحالية ومستقبلاً أيضاً.

الهدف ليس صِداماً عسكرياً مع إيران، ولكن ربما ستحدث بعض المناوشات من بعض الأطراف أو حتى ربما بعض التحرشات وبشكل مقصود أو عرضي، ولكنها ستبقى تحت السيطرة الأمريكية الإيرانية معاً بغرض تسريع أو إبطاء جلب إيران إلى طاولة التفاوض، والتي غاينها الأساسية تحجيم قدرتها الصاروخية والتي بات مداها يصل إلى إسرائيل وأوروبا وتطال قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة، وكذلك إنهاء البرنامج النووي الإيراني والقضاء عليه تماماً ومن دون أدنى شك، لضمان أمن إسرائيل بالتحديد.

الإيرانيون يعون ذلك جيداً وهم ليسوا سذجاً أو ضعافاً كما يتصور البعض، بل لديهم خبرات كبيرة في المفاوضات والصبر والتحمل، وهم يعلمون جيداً أنه لن تكون هناك حرب شاملة ضدهم بهدف تغيير النظام الذي لطالما خدم الغرب منذ 40 عاماً، والحصار الاقتصادي الذي فرضه ترامب لن يؤثر على القرار الإيراني كنظام بالقدر الذي قد يجعل الشارع الإيراني المحكوم بالحديد والنار من قبل الحرس الثوري قادراً على تغيير النظام.

إيران بعقلية التاجر والمفاوض الذي يمتلك الكثير من أوراق الضغط أو اللعب، تعلم كيف ستتعامل مع عقلية التاجر الأمريكي، وتعلم جيداً أنها آتية إلى طاولة مفاوضات ثنائية مع أمريكا وبعوامل مساعدة روسية وأوروبية، فأوروبا لن تستطيع أن تخرج من تحت العباءة الأمريكية، وخروجها كما يتأمل البعض لا يتعدى بعض التصريحات الإعلامية من هنا وهناك، وهذا ما أدركته إيران مؤخراً.

كلام ترمب المهادن والموجه لإيران مؤخراً ودعوتها للتفاوض ومن غير شروط مسبقة، يختلف كثيراً عن نبرته التصعيدية المهددة التي دأب عليها في مخاطبتها ومنذ حملاته الانتخابية، وهي ربما تعكس لدى البعض تصوراً متناقضاً مع التحركات العسكرية نحو إيران، وربما تولد تصوراً لدى البعض في تحول سياسته تجاهها، ولكن الحقيقة هي أنه وبأسلوب التجار “فكلاهما تاجر” لا بد وأن يستنفذ كل أساليب الترغيب والترهيب لجلبها وبأي شكل إلى طاولة المفاوضات “الثنائية” من جديد، مع حفظ بعض ماء الوجه ظاهرياً، وسوف تأتي إيران صاغرة وراغبة ما دامت تعتقد أن نفوذها لن يتأثر ووجودها الفعلي من خلال مليشياتها في العراق ولبنان وسوريا واليمن باق من منطلق القوة والواقع على الأرض، وبقاؤه يصب دوماً في صالح أمريكا وإسرائيل لما يمثله من تهديد وقلق لأنظمة وشعوب مجاورة، وهو المطلوب دوماً.

إذا كانت واشنطن لا تريد الحرب فلماذا كل هذه الحشود العسكرية الضخمة وهذا الاستعراض للقوة ؟!.وإذا كانت إيران مستعدة للمفاوضات فلماذا لم تجلس على الطاولة حتى الآن ؟!.وإذا كان الأمر يتعلق بصفقة القرن، فقد تم إنجاز القسم الأعظم منها، فهل يحتاج الجزء اليسير المتبقي، المتمثل بالإعلان عنها، لكل هذه الضوضاء ؟!..ثمة عملية هندسة أمريكية تعيد ترسيم منطقة الشرق الأوسط تطبخ منذ فترة.. فهل بدأتها إدارة ترامب قبل تمام نضوجها ؟!. دعوة ‫واشنطن‬ لاتفاق بديل يحوِّل ‫إيران‬ إلى دولة “عادية”، يكتنفها كثير من التبسيط والسذاجة.. الجمهورية الإسلامية لم تقم كي تتحول إلى دولة عادية. وأي تراجع عن القماشة الحالية لدولة الولي الفقيه في بُعدها العقائدي والفقهي والمذهبي، يؤدي، في عرف نظام ‫طهران‬ إلى سقوط النظام.‬‬‬

وحدة الدراسات الدولية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية