في 28 أيار/مايو، انتخب البرلمان العراقي الكردي بفارق ضئيل نيجيرفان بارزاني رئيساً جديداً لـ «إقليم كردستان»، حيث نال هذا اللاعب الأساسي منذ فترة طويلة في «حكومة إقليم كردستان» 68 صوتاً فقط من أصل 111 صوتاً. وكان «الاتحاد الوطني الكردستاني»، المنافس الرئيسي لـ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الذي ينتمي إليه بارزاني، قد قاطع التصويت بسبب عدد من القضايا، أبرزها نكث الوعد الذي قطعه «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بتعيين مسؤول من «الاتحاد الوطني الكردستاني» محافظاً لكركوك الغنية بالنفط. وفي غضون ذلك، لا يزال «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يسيطر على الجزء الشمالي الغربي من المنطقة الكردية بينما يسيطر «الاتحاد الوطني الكردستاني» على الجزء الجنوبي الغربي منها، حيث يتفاخر كل منهما بقوات مسلّحة تتّمتع بنفس القدر من القوة.
وكان من المفترض أن يؤدي انتخاب الرئيس الجديد إلى إطلاق عملية تشكيل «حكومة إقليم كردستان» التي تأخرت منذ إجراء الانتخابات في شهر أيلول/سبتمبر الماضي. ومن المتوقع أن يكلّف الرئيس الجديد ابن عمه مسرور بارزاني بتشكيل الحكومة الجديدة. ومع ذلك، فمن شبه المؤكد تقريباً أنّ تؤدي الانقسامات الداخلية المتعمقة ضمن «حكومة إقليم كردستان» إلى تأخير العملية حتى بصورة أكثر.
تقلّبات سياسية مقابل جمود نظامي
في السنوات الأخيرة تحوّل المشهد السياسي الكردي وتحرك جيئةً وذهاباً بسبب عددٍ من التطورات. أولاً، منَحَ هجوم تنظيم «الدولة الإسلامية» في عام 2014 فرصاً جديدةً لـ «حكومة إقليم كردستان» من أجل تحقيقها المزيد من التعاون العسكري الدولي والسيطرة على الأراضي المتنازع عليها مع بغداد. فحتى تشرين الأول/أكتوبر 2017، كانت قوات البيشمركة الكردية مسيطرة على كركوك وحقولها النفطية، مما ضاعف صادرات النفط لـ «حكومة إقليم كردستان» وضَمن صمودها الاقتصادي.
ثم جاء ضغط الأكراد لنيل الاستقلال. ومع شعور رئيس «إقليم كردستان» آنذاك مسعود بارزاني بالتمكين بفعل دوره في الوقوف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وإدراكاً منه لظروف بغداد المحاصَرة، تجاهل المشورة الأجنبية والمحلية وأجرى استفتاءً عام 2017 حول الانفصال المحتمل عن العراق، مما أدى إلى حدوث مواجهة مع القوات الاتحادية وخسارة الأراضي والموارد التي كان قد كسبها قبل ذلك التاريخ. وبعد استيلاء بغداد على كركوك، اتهم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» «الاتحاد الوطني الكردستاني» بالتواطؤ مع القوات الاتحادية والميليشيات الشيعية. وتابع الحزبان منذ ذلك الحين هذه اللعبة السامّة من اللّوم المتبادل وزادا الانقسامات الداخلية ضمن «حكومة إقليم كردستان»، حتى عندما بدأت علاقات كل منهما مع بغداد بالتعافي.
كما طرأ تحوّل على موازين القوى الداخلية بينهما. فعندما شكّل الحزبان أول حكومة لـ «إقليم كردستان» عام 1992، كانا على قدم المساواة. ولكن بحلول العام الماضي، كان «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يشغل خمسة وأربعين مقعداً في البرلمان الكردي مقابل واحد وعشرين مقعداً لـ «الاتحاد الوطني الكردستاني». إذ ساهم نشوء «حزب غوران» المنشقّ عام 2009 وكذلك وفاة زعيم «الاتحاد الوطني الكردستاني» جلال طالباني عام 2017 في إضعاف هذا الحزب الأخير إلى حد كبير. ولا يزال الحزب بلا زعيم حتى اليوم، على الرغم من أنّ كوادره لا تزال موحدةً بفعل الهدفين التوأمين المتمثلين في معارضة هيمنة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» والتشبّث بالوضع السابق على أمل إعادة الانضباط إلى صفوف الحزب ونهوضه من جديد.
وفي المقابل، تمتّع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بالاستقرار الداخلي في عهد مسعود بارزاني، ويسعى الآن إلى وضع حدٍ لتكافؤه مع «الاتحاد الوطني الكردستاني»، وذلك جزئياً عبر جعل السياسات الكردية تعتمد على الأغلبية بدلاً من الائتلافات. واحترازاً من أن يصيب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ما أصاب «الاتحاد الوطني الكردستاني» بعد رحيل طالباني، يشرف مسعود على نقل السلطة إلى الجيل التالي من عائلة بارزاني. ولكن بالنظر إلى الديناميات العسكرية والجغرافية الحالية بين الحزبين المتنافسين، لم تؤدِ المناورات السياسية في البرلمان دوراً كبيراً في تحديد موازين القوى الحقيقية لـ «حكومة إقليم كردستان» أو دفعها نحو الاتفاق على دستور إقليمي – وهو الموقف الذي يساهم في تفسير قوانين «حكومة الإقليم» القابلة للتغيير ومؤسساتها الضعيفة.
وقد سعى «الاتحاد الوطني الكردستاني» أيضاً إلى مقاومة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» عبر تصعيد أنشطته السياسية إلى المستوى الوطني. ففي تشرين الأول/أكتوبر، اختار البرلمان العراقي الاتحادي في بغداد شخصية بارزة في «الاتحاد الوطني الكردستاني» هي برهم صالح رئيساً للعراق على الرغم من المعارضة الشديدة من جانب مسعود بارزاني. ويريد «الاتحاد الوطني الكردستاني» الآن عرض منصب محافظ كركوك ومنصب وزاري اتحادي للتفاوض من خلال “وضعهما على الطاولة” خلال مفاوضات تشكيل «حكومة إقليم كردستان» باستخدام نفوذ «الاتحاد الوطني الكردستاني» في بغداد لكي يُرجِئَ قليلاً هيمنة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في كردستان.
ومن جانبه، يهدف «الحزب الديمقراطي الكردستاني» إلى تجزئة السياسة الكردية والاتحادية، لكنّ أعمال الحزب نفسه قد تضعف قدرته على تحقيق هذا الهدف. فعلى الرغم من فوز نيجيرفان بارزاني برئاسة الإقليم وتفاخره برسائل التهنئة والتأييد السياسي من الولايات المتحدة، إلّا أن «الحزب الديمقراطي الكردستاني» قد أضعف إلى حد كبير نقطتَي قوته الرئيسيتين في وجه «الاتحاد الوطني الكردستاني» وهما: المجلس التشريعي الكردي و«حزب غوران». ففي عام 2015، منع مسعود بارزاني رئيس البرلمان، الذي هو أحد زعماء «حزب غوران»، من دخول أربيل عاصمة «إقليم كردستان»، مما أدى في الواقع إلى تعطيل السلطة التشريعية لمدة عامين. وأما رئيس البرلمان الحالي، فهو عضو في «الحزب الديمقراطي الكردستاني» افتراضياً، لأنّ «الاتحاد الوطني الكردستاني» قاطع الجلسة البرلمانية التي عُقدت في 18 شباط/فبراير والتي تم فيها انتخاب الرئاسة. ولكن، على الرغم من هذا الاحتكار السياسي، فلن يكون للمراسيم الرئاسية الصادرة عن نيجيرفان بارزاني تأثير يذكر أو لا يكون لها تأثير خارج نصف كردستان الذي يسيطر عليه «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ما لم يتوصل هذا الأخير إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع «الاتحاد الوطني الكردستاني».
ويقيناً، أن «الحزب الديمقراطي الكردستاني» قد يتجاهل ببساطة الجهود المعرقلة لمنافسه ويتابع عملية تشكيل الحكومة بمساعدة أصوات «حزب غوران». ففي النهاية لا يرغب أيّ من الطرفين انهيار «حكومة إقليم كردستان» وانقسامها إلى محافظتين منفصلتين، وهو سيناريو قد يحدث في ضوء الحقائق الحالية على أرض الواقع.
مخاطر ضعف كردستان
على الرغم من أنّ الشقاق الكردي ليس بالأمر الجديد، إلّا أنّ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني» قد تمكّنا سابقاً من تشكيل جبهة موحدة عندما كان الأمر موضع البحث أكثر أهمية: أي في التعامل مع بغداد. وقد خدمت هذه الوحدة وبشكل جيد المصالح السياسية والاقتصادية لـ «حكومة إقليم كردستان»، مما ساعدها على تكريس حقوق الأكراد في الدستور العراقي واستقطاب شركات دولية إلى قطاع النفط المحلي. كما تخدم الوحدة الكردية المصالح الأمريكية أيضاً، لأن كَوْن كردستان قوية يجهزها بشكل أفضل لمنع تنامي الحركات الإرهابية وعدم قيام مناطق ينعدم فيها القانون والتي كادت تمزّق العراق [قبل فترة غير طويلة]. ومع ذلك، فإن تداعيات التصدّع في صفوف الأكراد حالياً تضع كل هذه المصالح على المحكّ.
على سبيل المثال، سعى رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي إلى فتح صفحة جديدة مع الأكراد عبر السماح لنفط كركوك بالتدفق في خط أنابيب «حكومة إقليم كردستان» واستئناف تحويلات الميزانية الاتحادية التي كان قد أوقفها سلفه في عام 2014. ومع ذلك، يمكن للديناميات الكردية الداخلية أن تقطع شهر العسل هذا إذا عمل كل من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» ضد بعضهما البعض على المستوى الوطني. فبالإضافة إلى احتمال إحباط التوصل إلى اتفاق دائم مع الحكومة الاتحادية بشأن محافظة كركوك “القابلة للاشتعال” على نحو متزايد وغيرها من المناطق المتنازع عليها، فإن الشجار بين الحزبين يمكن أن يُضعف تنسيق «حكومة إقليم كردستان» مع قوات الأمن العراقية في هذه المناطق. وقد بدأ تنظيم “الدولة الإسلامية” بالفعل باستغلال هذه الفجوة الأمنية الوليدة لإعادة تجميع صفوفه.
وبالمثل، قد تبدأ الفصائل داخل الحكومة الاتحادية في التوصّل إلى اتفاقات غير رسمية مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» بشكل منفصل بدلاً من عقدها هذه الاتفاقات مع «حكومة إقليم كردستان»، ففي وقت سابق من هذا الشهر، على سبيل المثال، أبرم «الحزب الديمقراطي الكردستاني» اتفاقاً مع رئيس «قوات الحشد الشعبي» لتعيين منصور المرعيد، وهو عضو في الكتلة البرلمانية المرتبطة بشبكة الميليشيات، محافظاً لنينوى. وفي غضون ذلك، يبدو أنّ «الاتحاد الوطني الكردستاني» يدعم دعوى قضائية لبرلماني كردي ضد «حكومة إقليم كردستان» بشأن تحويلات الميزانية، بحجة أن الأموال الإتحادية المخصصة لدفع رواتب الموظفين الحكوميين قد استخدمت لسداد الديون لشركات النفط. ويمكن لمثل هذه الخلافات أن تؤدي إلى قيام المسؤولين بإعادة النظر في الآلية التي قد تدفع بغداد من خلالها [رواتب] الموظفين الحكوميين في المناطق التي يسيطر عليها «الاتحاد الوطني الكردستاني» بشكل مباشر بدلاً من القيام بذلك عبر [«حكومة إقليم كردستان» في] إربيل – وهي فكرة كانت محرّمةً في معايير القومية الكردية قبل بضع سنوات فقط.
والمؤسف أنّ «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» لا يتنازعان حول مَن منهما يتحلى بالخطة الأفضل لترسيخ حوكمة أكثر مساءلةً وخدمة للمواطنين الأكراد، بل بشأن الحزب الذي يتحكم في شبكات المحسوبية التي تنبع من الضعف المؤسسي لـ «حكومة إقليم كردستان» وتديمه. وتجدر الإشارة إلى أن برلمان «حكومة إقليم كردستان» لم يقر ميزانية [للإقليم] منذ عام 2013، وأن المشاحنات المستمرة تصرف الانتباه والجهود عن الإصلاحات المؤسسية البالغة الأهمية. وحتى بعد أن شاهد الحزبان مباشرةً كيف أدت الخلافات بينهما إلى تفاقم نكساتهما العسكرية والسياسية بعد استفتاء الاستقلال، ما زالا يحاولان إدارة المشهد السياسي بدلاً من إصلاحه. وهذا هو السبب وراء صمود المعارضة الكردية الضعيفة بل المستمرة – وكما أظهر بروز «حزب غوران»، ترغب شريحة كبيرة من الرأي العام في [اختيار] اتجاهٍ ثالث.
ايران وقضايا النفط
فيما يتعلق بالإنقسام في صفوف «حكومة إقليم كردستان»، فبالإضافة إلى إضراره بمصالح الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، فإنه يفتح الباب أمام إيران في وقتٍ يبحث فيه النظام الإيراني عن طرقٍ جديدة لتخفيف آلام العقوبات التي يشهدها. ومنذ الاستفتاء [على الاستقلال] أعاد الأكراد تقويم علاقاتهم بشكل إيجابي مع طهران، ويعود ذلك جزئياً إلى خوفهم من التهديدات الإيرانية الناتجة عن تلك المبادرة، ولكن أيضاً بسبب خيبة أملهم من رد فعل واشنطن على الاستفتاء. علاوة على ذلك، يحتاج المسؤولون الأمريكيون إلى مساعدة «حكومة إقليم كردستان» في عرقلة الجهود التي تبذلها الجماعات البرلمانية المؤيدة لإيران الساعية لإنهاء بعثة التدريب الأمريكية في العراق. وعلى الرغم من أن مثل هذا التشريع قد تم تعليقه في الوقت الحالي، إلّا أن إقراره قد يتم إذا ما أعيد عرضه وسط الانقسامات الكردية العميقة.
لذلك، من مصلحة واشنطن إعادة إشراك «حكومة إقليم كردستان» في إصلاحات الحوكمة بجدية أكبر، وخاصةٍ فيما يخص قوات البيشمركة والقضايا الاقتصادية. فعلى الرغم من إحراز بعض التقدم، لا يزال اقتصاد «حكومة إقليم كردستان» يعتمد على النفط ويعجز عن توفير فرص عمل كافية. كما أن قطاعها المصرفي يُعدّ متخلفاً أيضاً، حيث لا يزال الموظفون الحكوميون يتقاضون رواتبهم نقداً – وهو وضع لا يفضي إلى الفساد في «حكومة إقليم كردستان» فحسب، بل إلى حصول إيران على الدولار الأمريكي من خلال شبكاتها في «الإقليم» أيضاً.
وفي السياق نفسه، تأخرت حكومتا «إقليم كردستان» وبغداد في التوصل إلى آلية مستقرة وطويلة الأجل لتقاسم عائدات النفط، والتي تزيل الطابع السياسي لعملية إعداد الميزانية الاتحادية. يجدر بالمسؤولين الأمريكيين تسهيل هذه الصفقة، سواء بشكلٍ مباشر أو من خلال بعثةٍ الأمم المتحدة في العراق. ومن شأن احتمالات التوصل إلى مثل هذا الاتفاق أن تشجّع على توحيد «حكومة إقليم كردستان» في مفاوضاتها مع بغداد بدلاً من إبرام كل من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» صفقاته الجانبية المنفصلة.
معهد واشنطن