في ظل التوتر السائد بين واشنطن وطهران، وهو نزاع قد يكون خطيرًا في العراق، تشهد التوترات العرقية بين الأكراد والعرب حالة غليان في الأراضي المتنازع عليها من البلاد، ولا سيما في محافظة كركوك المتعددة الأعراق. ففي الأسابيع القليلة الماضية أشارت التقارير الصادرة عن مصادر إخبارية كردية إلى أن الجهات الفاعلة العربية قد أضرمت النار في مئات الأفدنة من محاصيل القمح والشعير التابعة للأكراد في محاولة لطرد هؤلاء من أراضيهم، إلا أنه ما زال من غير المعروف ما إذا كانت هذه الجهات الفاعلة تابعةً لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أو للقوات شبه العسكرية العراقية. في غضون ذلك، لا تزال الحكومة المحلية في كركوك تمتنع عن الاستجابة فيما يتصارع الحزبان الكرديان الأساسيان، وهما “الاتحاد الوطني الكردستاني” و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”، حول السياسات الحزبية الضيقة الأفق، ما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى الأكراد في كركوك.
خلفية النزاع
في تشرين الأول/أكتوبر 2017، فقد الأكراد السيطرة على المناطق المتنازع عليها من كركوك بعد أن هاجم الجيش العراقي، بدعم من الميليشيات الشيعية، قوات البشمركة في المنطقة عندما أُدرجت محافظة كركوك في الاستفتاء الذي أجرته حكومة إقليم كردستان لمحاولة نيل الاستقلال. وأدى الهجوم إلى انسحاب فوضوي ومفاجئ للبشمركة من محافظات كركوك ونينوى وديالى، مع ما ترتب عنه من تداعيات بارزة على الأكراد في تلك المناطق.
وللمرة الأولى منذ عام 2003، فقد الأكراد نفوذهم العسكري والأمني والسياسي على مناطق لطالما زعموا على مر التاريخ أنها جزء لا يتجزأ من كردستان، موطن أجدادهم، فيما تشكّل موضع تنازع. ومن منظور عسكري، فقد الأكراد السيطرة على مؤسسات أمنية وعسكرية أساسية في المنطقة. ومن منظور اقتصادي، فقد الأكراد السيطرة على حقول كركوك النفطية، التي كانت بمثابة حبل نجاة للحكومة الكردية. أما على الجبهة الديموغرافية، فقد غادر حوالي 100 ألف كردي المنطقة، خشية انتقام الجيش العراقي والميليشيات غير الخاضعة للقيود، وباتوا نازحين داخليًا في إقليم كردستان العراق. وعلى الصعيد السياسي، عُزل محافظ كركوك المنتخب نجم الدين كريم من منصبه واستُبدل بمحافظ بالإنابة وهو راكان الجبوري. وتجدر الإشارة إلى أن السياسات العدوانية التي انتهجها المحافظ الجديد والتي تقضي باستبدال عناصر أكراد محليين أساسيين في المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والتعليمية المحلية بعناصر عرب، كانت مسؤولة جزئيًا عن عشرات الانتهاكات المسجلة بحق الأكراد في الأعوام الأخيرة الماضية.
ودفعت سياسات الجبوري جزئيًا ميزان القوى في كركوك ليميل نحو الأقلية العربية التي تقطن المنطقة. ومما يثير قلق الأكراد بشكل خاص في المنطقة، هو أن وسائل الإعلام الكردية قد أبلغت عن محاولات العرب لاستعادة الأراضي الكردية التي منحها النظام العراقي السابق لهم في إطار عملية تعريب المناطق الكردية في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، وفي بعض الحالات اتخاذ تدابير غير قانونية لهذه الغاية. ففي معظم الحالات، إن هؤلاء العرب، الذين يشار إليهم كـ “عرب مستقدمين” بما أنه تم استقدامهم من مناطق عراقية أخرى بغية احتلال الأراضي الكردية والتركمانية خلال تلك الفترة، تم إبعادهم عن هذه الأراضي والتعويض عليهم ماليًا إثر سقوط صدّام حسين، بموجب المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005. ولكن البعض ما زال يعتقد أنه يحق له تملّك هذه الأراضي، التي أعاد الأكراد احتلالها خلال العقد الأخير.
وهذه هي الأراضي المتنازع عليها بالذات التي تم حرقها خلال الأسابيع القليلة الماضية. ففي 14 أيار/مايو، أشارت وسائل الإعلام الكردية إلى توغّل ما يقارب مئتي عربي “مستقدم” في قرية بلكانه الكردية في محافظة كركوك، مسلحين ببنادق كلاشنكوف وأسلحة خفيفة أخرى. فداهموا القرية وهاجموا سكانها وهددوا بطمس معالمها إذا لم يغادرها الأكراد. ولم يكن هذا الهجوم مرتجلًا على ما يبدو، بل تعزز ربما بفعل قرار سابق صدر عن قيادة عمليات صلاح الدين العسكرية بهدف منع الأكراد من حصد محاصيلهم.
ويطرح هذا الأمر العسكري السؤال التالي: بأي صلاحية وسلطة يمكن لقائد عسكري أن يتخذ مثل هذا القرار البارز من دون استشارة السلطة المدنية المركزية في بغداد؟ قد يدعم على الأرجح هذا الإجراء المتخذ من قِبل قيادة عمليات صلاح الدين العسكرية استيعاب فكرة أن العراق يعاني من لامركزية وتعدد لمراكز السلطة أسوأ بكثير مما كان يُعتقد سابقًا، ما ينذر بالسوء لكركوك.
وفي عالم مثالي، يُفترض بجيش البلاد أن يكون وسيطًا صريحًا ومحايدًا لكافة فئات المجتمع. فحيادية الجيش العراقي مكرّسةٌ في دستور البلاد، إلا أن ذلك يتعارض بشدة مع مبدأ راسخ منذ حقبة سابقة يقوم على اعتبار أنّ الأكراد العراقيين هم “الآخر”. وفي نهاية المطاف، يبدو أن المادة الدستورية لم تنجح في تغيير ذهنية المؤسسة العسكرية العراقية تجاه الأكراد. فبحسب روايات سكان بلكانه، لم يدخل الجيش إلى القرية خلال الهجوم، غير أنه يقال أن وحدات عسكرية وقفت إلى جانب أولئك الذين كانوا يهاجمون الأكراد. كما ادعى بعض القرويين أيضًا أن آليات هامفي التابعة للجيش العراقي وجهت مدافعها الرشاشة نحو الأكراد المحليين في القرية.
وأعرب محافظ كركوك بالإنابة راكان الجبوري في مؤتمر صحفي عن دعمه للهجمات التي طالت بلكانه وقرى كردية أخرى. فقد زعم الجبوري أن الإجراءات الإدارية المتخذة في قرية بلكانه كانت تدابير قانونية وزعم أن بعض السكان كانوا أكرادًا إيرانيين من مهاباد في إيران، من دون تقديم أي أدلة داعمة لمزاعمه.
وكنتيجة جزئية لهذا الادعاء غير المثبت وغير المسؤول للمحافظ الإقليمي ولفشل الجيش العراقي في وضع حد لتخريب الأراضي الزراعية الكردية، ازدادت الهجمات على المحاصيل الكردية منذ الهجوم الأساسي، وامتدت إلى محافظة ديالى أيضًا. ففي 16 أيار/مايو، أُضرمت النيران في 400 فدان من الأراضي الزراعية التابعة للأكراد في قرى مبارك ودارا ومخناس الواقعة في منطقة خانقين. كما أفادت التقارير إلى انه في 19 أيار/مايو، اقتحم ما يقارب 25 عربيًا قرية سركران في كركوك، فمنعوا بذلك الأكراد من حصد محاصيلهم. وقبل يوم، أي في ليل 18 أيار/مايو، يُزعَم أنّ سائقا دراجات نارية تابعان لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” قاما بإحراق محاصيل في قريتين بالقرب من سركران.
وزعم عضو المجلس المحلي في سركران بدرالدين شمس الدين أن المهاجمين العرب لديهم قائمة من سبع عشر قرية مستهدفة في المنطقة، بما فيها بلكانه وسربشاخ وشناغة ودربند وجاستان وتلحلالا وجاستوما وشارد وغبالاكا وخرابه والقش وكابلان وسارالو وليبان وسركران وداودروغا وسيكوشان. كما أفاد شمس الدين أن الأكراد أُرغموا على التوقف عن حصد محاصيلهم في تلك القرى.
بالإضافة إلى ذلك، أفاد رئيس مديرية الزراعة في كركوك مهدي مبارك أن إحراق الأراضي الزراعية في كركوك حصل تحت ناظريّ القوات العراقية ومحافظ كركوك بالإنابة وبدعم منهم. وأضاف مبارك أنه منذ عام 2017 تم استحضار 12 ألف عائلة عربية إلى كركوك، معتبرًا أن المدينة تشهد عملية تعريب وهندسة اجتماعية متعمدة من خلال جعل العراقيين الشيعة يستقرون في كركوك.
تعتبر التدابير المتخذة من قِبل الجيش العراقي خلال هذه الفترة مقلقةً بشكل خاص من ناحيتين. أولًا، يعزز التقاعس الفكرة السائدة لدى سكان المنطقة الأكراد بأن الجيش العراقي ما زال الجيش القمعي الذي ارتكب جرائم فظيعة متعددة بحق الأكراد، بما فيها إبادات جماعية، في العقود السابقة. ثانيًا وعلى نحو أخطر، إذا دعم الجيش العراقي مجموعة عرقية على حساب الأخرى، فسيرسّخ تأييده لها النزاع العرقي في المناطق العراقية المتنازع عليها ويشجع الجهات الفاعلة المتطرفة على مواصلة أعمال العنف، ما قد يقود إلى نزاع عرقي، وهو مصير نجحت كركوك حتى الآن في تجنّبه على الرغم من كافة العقبات.
وما يزيد المسألة تعقيدًا هو أن السلطات المحلية عزت هجمات متعددة على الأراضي الزراعية الكردية إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. ولكن بالنظر إلى التسلسل الزمني للأحداث وتقارير شهود العيان، يعتقد الكثير من الأكراد في كركوك أن هناك احتمال أن يكون تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” يُستخدم ككبش محرقة للهجمات على المحاصيل. وحتى ولو كان المهاجمون المنفردون عناصر من تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، لا يمكن صرف النظر عن الإجراءات الطائشة المتخذة من قِبل الجيش العراقي ومحافظ كركوك والتي مهدت الطريق لاتخاذ هؤلاء الأفراد تدابير ظالمة باسم “داعش” كونها ساهمت في استهداف المزارعين الأكراد.
تبيّن ظروف بعض الهجمات أن قوات تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ليست المجموعات العسكرية الوحيدة المشاركة فيها. فقد سُجّلت حادثة أخرى في 21 أيار/مايو في قرية كاريتاغ في كاراتابا بالقرب من خانقين، وفي ليل 22 أيار/مايو، أُضرمت النيران بالمحاصيل في قريتين في داقوق في ظروف مجهولة، مستهدفةً منطقة تقطنها أقلية كاكي الكردية. وفى احدى المقابلات، قال صلاح بابان، وهو عضو في المجلس المحلي، إن الجهة التي أحرقت المزارع غير واضحة، ولكنه أشار إلى أن الحقول كانت على مقربة من قاعدة لـ”قوات الحشد الشعبي”، وهي القوات شبه العسكرية في العراق. ووُجّهت أيصًا اتهامات مماثلة ضد “قوات الحشد الشعبي” من قِبل الشيخ جعفر الشيخ مصطفى، وهو مسؤول الفرع الخامس عشر لـ”الحزب الديمقراطي الكردستاني” في خانقين، الذي قال إنه يعتقد أن “قوات الحشد الشعبي” كانت المسؤولة عن إضرام النيران، وليس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. وبحسب مصطفى، أُحرق 700 فدان من الأراضي الزراعية التابعة للأكراد بشكل متعمّد، بما فيها 150 فدان في جلولاء وحدها.
وبحسب هذه الأرقام، أُضرمت النيران في أكثر من ألف فدان من الأراضي الزراعية الكردية بشكل إجمالي في محافظتي كركوك وديالى اللتين تقعان تحت حماية الجيش العراقي والميليشيات الشيعية التابعة لـ “قوات الحشد الشعبي”. وحتى الآن، لم تحاسَب أي جهة على أعمال التخريب تلك. بنتيجة ذلك، خلقت عمليات الإحراق المتعمد جوًا من الخوف والاضطراب لدى أكراد كركوك، الذين يشعرون بأنهم يفتقرون حاليًا للحماية السياسية أو العسكرية من قِبل الحكومتين الإقليمية والاتحادية.
فشل الاستجابة السياسية الكردية
من أجل تهدئة الوضع، أصدرت الأحزاب السياسية الكردية ومسؤولون ونواب أكراد في إقليم كردستان والعراق عدة رسائل احتجاج على قمع الأكراد في هذه المناطق المتنازع عليها. ولكن الحزبين الكرديين الأساسيين، وهما “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”، لم ينسّقا جهودهما لمناهضة استهداف الأكراد ضمن منطقة كركوك.
عوضًا عن ذلك، ينشغل الحزبان في لوم بعضهما البعض، إذ ما زال “الحزب الديمقراطي الكردستاني” يزعم أن “الاتحاد الوطني الكردستاني” مسؤول عن خسارة كركوك عام 2017 وتبعاتها، من دون عرض مقاربات أو حلول واقعية للمسألة، فيما ينشغل “الاتحاد الوطني الكردستاني”، الذي يشغل ستة مقاعد كاملة من أصل إثني عشر مقعدًا برلمانيًا في كركوك، في العمل مع السياسيين العرب والتركمان في كركوك على حساب “الحزب الديمقراطي الكردستاني”. بعبارة أخرى، إن الاقتتال الداخلي بين “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” حول كركوك قد أرخى بثقله على أكراد المنطقة الذين ما زالوا يتعرضون للتهجير ويعانون من اضطرابات سياسية وأمنية.
يسيطر الأكراد على 26 من أصل 41 من أعضاء مجلس محافظة كركوك، لكن الخلاف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني منع المجلس من الاجتماع من أجل تعيين محافظ جديد لكركوك. كما حاول الاتحاد الوطني الكردستاني دعوة العديد من الأعضاء لتعيين حاكم، لكن عدم اكتمال النصاب القانوني الناتج عن مقاطعة أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني، أدى إلى إحباط جهود الاتحاد الوطني الكردستاني لاتخاذ قرار من جانب واحد بشأن الحاكم. وهناك أيضا خلاف على مطالبة الحزب الديمقراطي الكردستاني بشغل شخصية مستقلة لهذا المنصب، بينما يريد الاتحاد الوطني الكردستاني اختياره لمنصب الحاكم.
ومن غير الواضح ما إذا كان المسؤولون الأكراد، بمن فيهم الرئيس العراقي برهم صالح في بغداد، سيتمكنون من وضع حد للعنف أو للجهود التي يبذلها على ما يبدو المحافظ بالإنابة الجبوري لتعريب المناطق المتنازع عليها أو لتجريد الأكراد من الحماية السياسية والأمنية. ومع ذلك ، فإن السياسيين الأفراد يتحدثون علنًا ضد التقاعس السياسي الحالي، حيث حذّر المدير التنفيذي للمكتب السياسي مهلا بهختيار من أنه إذا لم يتخذ المسؤولون الأكراد في بغداد موقفًا تجاه ما يراه العديد منهم في كركوك على انه عملية تعريب، فلن يكونوا مختلفين على الإطلاق عن السياسي الكردي طه محيي الدين معروف، الذي كان نائب الرئيس صدام حسين خلال معظم أعماله القمعية ضد أكراد العراق.
ولكن الحل الفعلي لكركوك يجب أن ينبثق من الأحزاب السياسية في إقليم كردستان. فإذا عمل “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” معًا للتوصل إلى اتفاق لتعيين محافظ جديد في كركوك يدعم مصالح الإقليم ككل، يمكن أن يستعيد أكراد كركوك ثقتهم في الحكومة المحلية. غير أن العمل على إبطال التدابير المتخذة منذ عام 2017 لإضعاف الموقف الكردي في المحافظة على الجبهة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية تطلّب من “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” العمل كجبهة موحدة، وهو موقف يُعتبر الحزبان غير مستعدين حتى الآن لاتخاذه.
معهد واشنطن