لطالما اعتبر المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أن الولايات المتحدة لن ترضى أبداً بالتنازلات الإيرانية إلى حين خضوع الجمهورية الإسلامية نفسها. وتشير وجهة النظر هذه إلى موقف المسؤولين الإيرانيين الدائم بأنهم لن يتفاوضوا مع الولايات المتحدة تحت الضغط.
وبشكل غير مفاجئ، جاء الردّ الإيراني على تصعيد حملة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها إدارة ترامب على شكل اختبار حدود العزم الأمريكي وكشفه من خلال إطلاق سلسلة من عمليات التخريب وهجمات بالوكالة ضدّ ناقلات نفط – اثنتان منهما سعوديتان وواحدة إماراتية وأخرى نرويجية – وضدّ محطات ضخّ نفط في السعودية.
ومع قيام الولايات المتحدة بإرسال المزيد من القوات إلى المنطقة وتصاعد التوترات، من المثير للاهتمام أن يكون ترامب وخامنئي قد عملا على وقف التوجّه نحو نزاع مباشر. فقد أوضح الرئيس ترامب أنه لا يريد حرباً، حيث تحدّث عن “إمكانيات إيران الكبرى” وحثّ قادة الجمهورية الإسلامية على الاتصال به “لإبرام اتفاق”. بدوره، قال المرشد الأعلى في تصريحات نقلتها شاشات التلفزيون المحلية إن “أياً منا لا يسعى إلى حرب”.
لكن هذا لا يعني أن الإيرانيين مستعدون للمشاركة في مفاوضات – على الأقل ليس في الوقت الحاضر. فخامنئي الذي أمضى عقوداً يشكك في قيمة المحادثات مع الولايات المتحدة لا يريد أن يبدو أنه رضخ لأمريكا. فهو لا يزال يعتبر المفاوضات “سماً”. من جهته، أكّد الرئيس الإيراني حسن روحاني أن “الوضع غير مناسب للمحادثات وخيارنا هو المقاومة فقط”.
وبالنسبة لروحاني وخامنئي، قد تنطوي المقاومة على الابتعاد عن الحدود التي فرضها الاتفاق النووي على إيران عام 2015 والمعروف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة». فقد أعلن الإيرانيون أساساً أنهم سيضاعفون معدّل التخصيب بواقع أربع مرات، مما يعني أنهم سيتخطّون قريباً عتبة الـ 300 كيلوغرام من اليورانيوم المنخفض التخصيب التي تسمح لهم بها شروط الاتفاق. وقد أبلغ روحاني الأطراف الأوروبية التي وقّعت «خطة العمل الشاملة المشتركة» بأنه في حالة عدم قيامها بتعويض الإيرانيين اقتصادياً عن العقوبات الأمريكية بحلول 7 تموز/يوليو، فقد يستأنف الإيرانيون التخصيب إلى نسبة 20 في المائة، مما قد يضعهم على مسار تجاوز “العتبة النووية”.
وقد تكون هذه نسخة المرشد الأعلى “للضغط الأقصى” على ترامب. لكن إلى متى يستطيع خامنئي الاستمرار بها؟ فبلاده تشعر بثقل عقوبات إدارة ترامب، حيث يشهد الاقتصاد تراجعاً كبيراً وتغلق المؤسسات أبوابها ويشعر الإيرانيون يومياً بخسارة قيمة مدخراتهم، وبارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية والأدوية والسلع الاستهلاكية ارتفاعاً خيالياً.
وقد يصرّ خامنئي على عدم تفاوض إيران تحت الضغط، لكن تاريخ الجمهورية الإسلامية يشير إلى عكس ذلك. ففي الماضي، عندما كانت الضغوط الخارجية تتنامى إلى حدّ كبير وتعرّض الاستقرار المحلي للخطر، كانت القيادة الإيرانية تبحث عن وسيلة للتخفيف منها ومن التكاليف المرتبطة بها. وهذا ما حصل عندما قررت إنهاء الحرب مع العراق عام 1988، ووقف اغتيال المنشقين في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي عند تهديدها بالعقوبات، وعرضها تسويةً نووية في عام 2003 بعد ثلاثة أسابيع من هزيمة الجيش العراقي على يد القوات الأمريكية حين خشي الإيرانيون أن يكونوا هم التاليون، وفي عام 2012 عندما وافقت إيران على التواصل مع الولايات المتحدة عبر قنوات خلفية بعد أن عملت إدارة أوباما على تشديد العقوبات على المصرف المركزي الإيراني وتوقّف الأوروبيون عن شراء النفط الإيراني.
فهل نشهد تكرار هذا السيناريو مع إدارة ترامب؟ إنّ الحكمة السائدة هي أن الإيرانيين يريدون انتظار انتهاء فترة رئاسة ترامب والتعامل مع خلفه. وهذا ما يفضّله خامنئي بشكل شبه مؤكد، لكن الكثير يتوقّف على مقدار الصعوبات الاقتصادية التي يعتقد أنه يمكن للشعب الإيراني تحمّلها.
وإذا شعر خامنئي بأنه يجب عليه أن يخفف الضغط، وأن يختار الدخول في مفاوضات، فمن شبه المؤكد أن تكون المحادثات غير مباشرة – فالمحادثات المباشرة ستكون بمثابة اعتراف بالهزيمة. ومن شأن استخدام وسيط على غرار فلاديمير بوتين أن يلقى قبولاً من الزعيم الروسي وترامب على السواء.
ولكن ما نوع الاتفاق الذي سيكون ترامب على استعداد لإبرامه؟ من المستبعد أن يكون ذلك بناءً على شروط وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الإثني عشر للتفاوض: فالإيرانيون يعتبرون أن هذه الشروط تساوي طلب تغيير النظام. وخلال زيارته إلى اليابان، كان ترامب واضحاً بقوله إنه “لا يسعى إلى تغيير النظام”. عوضاً عن ذلك، صرّح بأن هدفه هو “نزع السلاح النووي”، مما يترك مجالاً للمناورة. لكن في الحقيقة، يبدو أن المعيار الوحيد الذي يعتمده ترامب لأي اتفاق هو ذلك المطبّق على معظم المسائل الرئاسية: يجب أن يكون الاتفاق أفضل من ذلك الذي أبرمه أوباما.
وقد يتمثل أحد التحسينات الواضحة في «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تمديد “بنود الغروب” التي تحدّ من قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم لتمتدّ، على سبيل المثال، من عام 2030 وإلى عام 2045. ومن شأن هذه الخطوة أن ترجئ أي تهديد إيراني نووي محتمل إلى مرحلة بعيدة في المستقبل. إلا أنها لن تتعامل مع التهديدات الإقليمية الناتجة عن مساعي إيران لتوسيع انتشارها وتعزيز أساليبها القسرية ضد الأنظمة العربية وإسرائيل. وسيتطلب هذا الأمر إقناع إيران بالحدّ من تواجدها العسكري في سوريا والتوقّف عن تزويد «حزب الله» وغيره من وكلائها في لبنان وسوريا بالقذائف والصواريخ الموجّهة بدقة.
لكن الإيرانيين لن يقدّموا هذه التنازلات مجاناً، إذ سيسعون إلى رفع كافة العقوبات، النووية منها وغير النووية. وقد يتطلب ذلك من ترامب اختيار حجم التنازلات التي هو مستعد لتقديمها. فأوباما لم يكن مستعداً لرفع العقوبات المرتبطة بحقوق الإنسان والإرهاب. ومن المرجح أن يتردد ترامب في القيام بذلك أيضاً. ومع ذلك، فقد يخلُص إلى أن كسب الوقت (15 عاماً إضافياً) وخفض احتمالات اندلاع حرب إقليمية في غضون ذلك هما إنجازان مهمان بحدّ ذاتهما. أما المفارقة الكبرى فهي أن أقصى قدر من الضغط، كما يمارسه كل ترامب وخامنئي، قد يدفعهما في هذا الاتجاه – شرط ألا يؤدي سوء التقدير بهما أولاً إلى قيادتهما نحو نزاع أكبر.
معهد واشنطن