تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من التوتر والقلق، عقب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بإنهاء الاستثناء الممنوح لعدد من الدول في ما يتعلق بعدم تطبيق قواعد العقوبات المفروضة على إيران، خصوصا المتعلقة باستيراد النفط الإيراني، وعدم السماح بتمديد تلك الاستثناءات، وهو ما يعني إحكام الحصار المفروض على تصدير هذا النفط، وقد صاحب ذلك القرار تعهد سعودي إماراتي بتعويض النقص الناتج عن إيقاف ضخ النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية.
جاء رد فعل إيران حادّاً، حيث أعلنت أنها لن تتوقف عن إنتاج النفط وتصديره، وفي حالة تعرّضها لأي مخاطر، فإنها تهدد بإغلاق مضيق هرمز، المنفذ الرئيسي لبترول الخليج إلى البحار المفتوحة، ومنها إلى الدول الصناعية الكبرى، خصوصا اليابان والصين، وبالتالي يستمر ضخ الطاقة المحرّكة للاقتصاد العالمي.
خيمت أجواء الحرب على منطقة الشرق الأوسط، صعدت أميركا من الموقف، وصدرت الأوامر لحاملة الطائرات أبراهام لينكولن، بالإبحار إلى المنطقة. وبالطبع ترافقها مجموعة القتال البحرية المخصّصة لها، وأعلنت إيران أنها مستعدّة للدفاع عن نفسها. وهكذا، اقترب ترامب بالمنطقة إلى حافة الهاوية، وتصوّر مراقبون كثيرون أن الحرب على الأبواب، وأنها قادمة لا محالة، فحاملات الطائرات لا تتحرّك عبثاً، والقواعد العسكرية لا ترفع درجات استعدادها من دون داع. وارتفعت درجة حرارة التراشق بالبيانات، والتصريحات، بل والتهديدات المباشرة، بين أميركا وإيران، على أعلى مستويات القيادة في البلدين، الرئيس الأميركي ترامب، ووزيري خارجيته ودفاعه، ومستشار الأمن القومي، وغيرهم، ومن الناحية الأخرى، المرشد علي خامنئي والرئيس الإيراني ووزير الخارجية وكبار قادة الحرس الثوري والجيش، وبدا الأمر كأن المنطقة في انتظار إشارة انطلاق الحرب الأميركية الكبرى ضد إيران.
في وسط ذلك الزخم، وبينما كان هناك من يترّقب اشتعال فتيل تلك الحرب التي ستخلصهم من هاجس الخطر الإيراني الذي يهدّد عروشهم، ومن يتخوّف من العقلاء من اندلاع حربٍ
“تبدّدت سحب الحرب الأميركية على إيران، وتحولت من حربٍ وشيكة إلى حربٍ مؤجلة” ستنعكس آثارها المدمرة، ليس على المنطقة فقط، بل ستمتد إلى العالم بأسره. في وسط ذلك الزخم، إذا بحدّة الخطاب المتبادل بين أميركا وإيران تهدأ تدريجياً، وتخرج تصريحات ترامب الجديدة بأنه لا يسعى إلى الحرب، ولا يرغب فيها، بل يدعو إيران إلى التفاوض، وإن كل هدف أميركا هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وترد إيران بأنها لا ترغب في الحرب، ولا تسعى إلى امتلاك هذا السلاح، لأنها تعتبره محرّماً شرعاً، ولكن التفاوض مع أميركا يتطلب ترتيباتٍ مختلفة.
تبدّدت سحب الحرب الأميركية على إيران، وتحولت من حربٍ وشيكة إلى حربٍ مؤجلة، لا يمكن لأحدٍ أن يتكهن بموعدها، ولا بما إذا كانت ستقع، أم أنها ستضاف إلى حروب الشرق الأوسط المؤجلة، فالولايات المتحدة، منذ دخلت بثقلها إلى المنطقة، في أعقاب الخروج الكبير لقوى الاستعمار القديم، بريطانيا وفرنسا، في أعقاب فشل العدوان الثلاثي (حرب السويس 1956)، لا تخوض حروب الشرق الأوسط بنفسها، إلا في حالات الضرورة القصوى، وبالتحديد إذا أصبح الشرق الأوسط، خصوصا منطقة مصادر البترول أو طرق مواصلاتها في شبه الجزيرة العربية والخليج، في خطر داهم، سواء من دولةٍ، أو من جماعاتٍ وحركات من غير الدول، ولا يكون أمام أميركا سوى أن تتدخل بنفسها.
كان أول خطر هدّد منابع النفط في الجزيرة العربية عندما خرج جمال عبد الناصر بالجيش المصري من حدود بلاده إلى اليمن، بدعوى دعم ثورتها في العام 1962، وأصبح على حدود السعودية. واليوم، أصبح معروفاً ما جرى، استنزاف خمس سنوات أنهك مصر عسكرياً، واقتصادياً، أعقبته حرب بالوكالة، قامت بها إسرائيل، حرب 5 يونيو/ حزيران 1967، والتي ما زالت آثارها قائمة. ولتأكيد ذلك، أصرت الولايات المتحدة في حرب السويس عام 1956 على انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من منطقة القناة، وانسحاب إسرائيل من كل سيناء وقطاع غزة، بينما اختلف الموقف تماماً في أعقاب هزيمة 1967. انتهى تهديد عبد الناصر للمنطقة، وحصلت إسرائيل على نصيب الأسد، باحتلال كل فلسطين التاريخية وهضبة الجولان السورية ذات الأهمية الاستراتيجية، وإعادة احتلال سيناء التي لم تنسحب منها إلا بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وصفقة كامب ديفيد التي اعترفت فيها مصر بدولة إسرائيل، وخرجت من دائرة الصراع.
خاضت أميركا بنفسها، بعد ذلك، ثلاث حروب في المنطقة، على وجه التحديد، لم يكن هناك
“تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من التوتر والقلق” مفرّ من خوضها: حرب الخليج الثانية، أو عاصفة الصحراء، عندما خرج الجيش العراقي من حدود بلاده في العام 1990، ليحتل الكويت، ويصل إلى حدود السعودية، ويهدد منطقة الخليج بأكملها. والحرب في أعقاب عملية 11 سبتمبر/ أيلول من العام 2001 الإرهابية الكبرى، والتي تعرّضت لها الولايات المتحدة في عقر دارها، فشنت حربها المباشرة ضد أفغانستان التي كانت قد تحولت إلى إمارة إسلامية تحت حكم حركة طالبان، وكانت توفر ملاذاً آمنا لتنظيم القاعدة، المتهم بتدبير عملية “11 سبتمبر”، التي هزّت هيبة أميركا، وبالتالي مثلت خطراً على نفوذها في الشرق الأوسط. الحرب الأميركية الثالثة في منطقة الشرق الأوسط هي غزو العراق، في العام 2003، عندما استشعرت أن الفرصة متاحة لفرض سيطرتها وهيمنتها الكاملة على كل منطقة النفط الخليجي العربي.
كانت تلك الحروب الثلاث موجودة على الأجندة الأميركية، ومؤجّلة، حتى دعت إليها الضرورة، لأنها عادة تفضل الحروب بالوكالة، كما حدث في حرب يونيو/ حزيران 1967، والتي تمر ذكراها الثانية والخمسين هذه الأيام، وما زالت آثارها قائمة، وتترسّخ.
تبقى الحقيقة التي علينا إدراكها، أن الولايات المتحدة، تحت أي إدارة، جمهورية أو ديمقراطية، ومن الرئيس أيزنهاور ووزير خارجيته دالاس، حتى ترامب ووزير خارجيته بومبيو، ومنذ حلت محل بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط، في أعقاب حرب السويس في 1956، وأصبح نفط المنطقة العربية، وطرق مواصلاته، عبر الممرّات والمضايق المائية، تحت هيمنتها، وهي لا ولن تسمح بحدوث فراغ من أي نوع، وبأي شكل، في هذه المنطقة، يتيح الفرصة لقوىً إقليمية، أو دولية، قريبة من المنطقة، وهي بالتحديد إيران بطموحات الإمبراطورية الفارسية، وتركيا بطموحات الإمبراطورية العثمانية، وأخيراً، روسيا وتاريخها الإمبراطوري.
.. هل تضع أميركا على أجندتها حروباً مؤجلة مع أيٍّ من تلك القوى الثلاث؟ وما هي الخطوط التي إذا تجاوزتها أي من تلك القوى تصبح الحرب الأميركية حتمية؟ وهل ندرك نحن في المنطقة ذلك؟ وماذا علينا أن نفعل غير مؤتمرات القمة؟
العربي الجديد