بات موضوع اللاجئين السوريين، والسوريين بشكل عام، في تركيا، يشكل مادة للتوظيف السياسي، بين حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وأحزاب المعارضة التركية، وخصوصا في الاستحقاقات الانتخابية، الأمر الذي ينعكس سلباً على وضع السوريين في هذا البلد، من جهة إثارته نزعاتٍ معادية لهم، إذ تسهم بعض وسائل الإعلام التركية في إلقاء تبعات تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية على السوريين، الأمر الذي يجعل غالبية المواطنين الأتراك الفقراء يصبّون غضبهم واستياءهم على اللاجئين السوريين، زاعمين أن ارتفاع الأسعار، وخصوصا إيجارات السكن وارتفاع نسب البطالة، سببه الوجود السوري، مع أن غالبية السوريين في تركيا يتقاسمون مع عامة الأتراك صعوبات الأوضاع المعيشية، وكذلك تبعات النزعات الرافضة لوجودهم، وسواهما. ويعاني القسم الأعظم من السوريين في تركيا، سواء اللاجئين داخل المخيمات أم الذين يقيمون خارجها، من تبعات الهجرة القسرية، ومن صعوباتٍ قانونيةٍ واجتماعية، تتصل بالعمل والإقامة والتنقل بين الولايات والاندماج، على الرغم من أن أوضاعهم في تركيا أفضل بكثير من أوضاع رصفائهم في البلدان العربية، وخصوصا لبنان والأردن ومصر.
أعداد وإحصاءات
وصل عدد اللاجئين السوريين في نهاية عام 2018، إلى 3.623 ملايين، حسب إحصاءات إدارة الهجرة التركية التي بيّنت أن 143 ألفاً و68 لاجئاً فقط يقيمون في المخيمات، أي أن 96% من السوريين يعيشون في المدن والبلدات التركية، ويشكلون قرابة 4.5% من إجمالي سكان تركيا، البالغ عددهم 81 مليون مواطن. وبالمقارنة مع عدد سكان سورية، وفق إحصاءات رسمية في عام 2011، البالغ 20.8 مليوناً، فإن 17% من سكان سورية يتواجدون في تركيا حالياً.
ويتوزّع السوريون المقيمون في تركيا بنسب متفاوتة على معظم الولايات، إسطنبول في
“يعاني القسم الأكبر من السوريين في تركيا من تبعات الهجرة القسرية، ومن صعوباتٍ قانونيةٍ واجتماعية” مقدمتها، حيث تجاوز عددهم 557 ألفاً. في المقابل، تبلغ نسبتهم في ثماني ولايات تركية جنوبية نحو 57% من إجمالي عدد السوريين، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، ويشكلون نسبة 19.3% من سكان سانليورفا، و21.2% من سكان هاتاي، و16.1% في غازي عنتاب، و10.4% من مرسين. ويشكلون نسبة هائلة تبلغ 84.3 من سكان ولاية كيليس الحدودية الصغيرة، بلغ عددهم 114 ألفاً، من إجمالي 136 ألفاً يسكنون هذه الولاية، حسب إحصاءات إدارة الهجرة التركية.
ويطلق على السوريين المقيمين في تركيا اسم “لاجئين” مجازاً، لأن القوانين التركية لا تسمح بتصنيفهم لاجئين وفق اتفاقية جنيف التي وقعتها تركيا مع الأمم المتحدة عام 1951، إذ استحدثت الحكومة التركية في 2014 “قانون الحماية المؤقتة، والذي يتضمن الإقامة غير المحدودة لهم في تركيا، وحمايتهم من الإعادة القسرية، وتوفير خدمات الاستقبال، ومعالجة الاحتياجات الأساسية الفورية.
ويجري تقديم المساعدات للسوريين بشكل منتظم داخل المخيمات. أما من هم خارجها، فتقدّم المساعدة على أسس خاصة، باستثناء الحصول على الرعاية الصحية والطبية العامة، التي تقدّم لكل من يحمل بطاقة الإقامة الخاصة بالسوريين (الكمليك). ويشمل نظام الحماية المؤقتة جميع اللاجئين، بمن فيهم الذين لا يملكون وثائق تعريف شخصية (هوية، جواز سفر). كما يشمل أيضاً الفلسطينيين من سورية، وحتى الأشخاص بدون جنسية من سورية.
الإقامات والقوانين… والاقتصاد
تتميز سياسة اللجوء التركية بخضوعها لقيود جغرافية لاتفاقية جنيف، لأن تركيا قبلت بالاتفاقية مشروطةً بقيد جغرافي، تمنح بموجبه مكانة اللاجئ فقط للأشخاص الذين صاروا لاجئين، نتيجة أوضاع حدثت في أوروبا حصراً، وقبل 1951، في حين أن تركيا اعترفت، منذ بداية تدفق السوريين إليها في 2011، كتدفق جماعي للاجئين، وليس مجرد لاجئين أفراد، ووضعت لهم قانوناً خاصاً، لكن الحكومة التركية اعتبرتهم في البداية “ضيوفاً”، وهو ما لا يتماشى مع أي قانون وطني أو دولي. وقد أعلنت وزارة الداخلية التركية أن السوريين يستفيدون من وضع الحماية المؤقتة، فأصدرت توجيهاً إدارياً في مارس/ آذار 2012، يتضمن ثلاث نقاط: اتباع سياسة الحدود المفتوحة. منع الإبعاد القسري للسوريين. تغطية الاحتياجات الإنسانية للسوريين المقيمين في المخيمات.
وهناك أربع أنواع من الإقامات للسوريين: المخصصة للسوريين الذين يملكون أوراقا ثبوتية، أو حتى الذين لا يملكونها، وتعرف بالإقامة المؤقتة (الكمليك)، وتخوّل السوريين العمل في
“يطلق على السوريين المقيمين في تركيا اسم “لاجئين” مجازاً، لأن القوانين التركية لا تسمح بتصنيفهم لاجئين” تركيا. ثم السياحية ومدتها عام، ولكن بموجب عدة شروط، أهمها أن يمتلك السوري وثائق سفر رسمية، خصوصا جواز سفر دخل به إلى الأراضي التركية بشكل نظامي، إضافة إلى وجود عقد إيجار منزل مصدق من البلدية مدة عام، لكن هذه الإقامة لا تخوّل للسوريين العمل على الأراضي التركية. وثالثاً إقامة العمل، وتشترط الحصول على عقد عمل نظامي في إحدى المؤسسات أو الشركات العاملة على الأراضي التركية. أما إقامة المستثمر، فتمنح لرجال الأعمال السوريين الذين يستثمرون أموالاً داخل الأراضي التركية.
وتقضي القوانين التركية أن على من يريد الحصول على الجنسية التركية الإقامة خمس سنوات متتالية من دون انقطاع في تركيا، بشكل شرعي، وألا تكون إقامته بغرض الدراسة، وألا يزيد مجموع فترات خروجه خارج الحدود التركية أكثر من ستة أشهر، وبالتالي فإن غالبية السوريين العظمى، المقيمين في تركيا، لا يحق لهم الحصول على الجنسية بشكل نظامي، ذلك أن نوعية إقامتهم (الكمليك) لا تؤهلهم لذلك، لأن القوانين تشترط حصولهم على إقامة عمل أو مستثمر. ويستثنى من ذلك المتزوجات من مواطن تركي، أو المتزوج من تركية، حيث يحق لهم التقدّم للحصول على الجنسية بعد مرور ثلاث سنوات، شريطة إثبات وجود ترابط أسري، وأن هدف الزواج ليس فقط للحصول على الجنسية التركية، يضاف إلى ذلك الأشخاص ذوو الأصول العثمانية، ويملكون ما يثبت أصولهم.
ويقرّ الاقتصاديون الأتراك بإسهام كبير للسوريين في دورة الاقتصاد التركي، خلال السنوات السبع الماضية. وعلى الرغم من العبء الاقتصادي الذي يشكلونه على الاقتصاد التركي، إلا أن العائد الاقتصادي لاستثماراتهم وخبراتهم وقوة عملهم في تركيا كان أكبر. وقد قدّم السوريون لسوق العمل التركي خبرات عديدة، وكذلك للمنشآت والمصانع التركية، فضلاً عن المصانع والورشات والمطاعم وسواها، إضافة إلى قوى عاملة رخيصة. واحتلت رؤوس الأموال والشركات السورية التي تم تأسيسها في تركيا خلال العام الماضي (2018) المرتبة الأولى بين المستثمرين الأجانب في البلاد، بنسبة وصلت إلى نحو 22.3% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وذلك وفقا لبيان صادر عن رئاسة هيئة الطوارئ والكوارث الطبيعية (آفاد)، التابعة لرئاسة الوزراء التركية. وأسّس رجال الأعمال السوريون خلال العام الماضي ألفا و429 شركة. وليس هناك أرقام دقيقة لحجم الاستثمارات السورية في تركيا، لكن يقدرها خبراء اقتصاديون بحوالي عشرة مليارات دولار، أو ما يزيد عن ذلك.
جدل الأحزاب
وظفت مسألة تجنيس السوريين سياسياً ما بين أوساط أحزاب المعارضة وحزب العدالة والتنمية (الحاكم)، وأثارت لغطاً كبيراً في الأوساط السياسية التركية، بل أشعلت نقاشاً وطنياً بشأن
“يقرّ الاقتصاديون الأتراك بإسهام كبير للسوريين في دورة الاقتصاد التركي” مستقبل اللاجئين السوريين في تركيا، مع أن مسألتهم يُنظر إليها من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، وقدرة الحكومة التركية على اتخاذ إجراءاتٍ تسهل منح الجنسية للاجئين السوريين، كي تكسر الجمود في هذه الأزمة الإنسانية التي يعاني من تبعاتها ملايين السوريين، بعد أن اضطرتهم الحرب الشاملة التي خاضها النظام السوري، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، ضد غالبيتهم، لمغادرة بلادهم، وباتوا يعانون كثيراً من تبعات التهجير القسري.
ويرتبط النقاش بشأن منح الجنسية بالتركيز على مستقبل السوريين في تركيا، من جهة أنها مسألة سياسية وإنسانية طويلة الأمد، وقد صدرت دراسات عن مراكز بحوث وجامعات تركية، أوصى بعضها (مثل دراسة لجامعة “حاجي تيبه” (HÜGO) التركية)، الحكومة والشعب التركي، بالاستعداد، نفسياً على الأقل، على تقبل احتمال أن غالبية اللاجئين السوريين في تركيا سيبقون فيها، ولن يعودوا إلى بلادهم.
وترى أحزاب المعارضة التركية في منح استثناءات، وتسهيل إجراءات منح الجنسية التركية لبعض السوريين الراغبين فيها، بأنها تدخل ضمن سعي الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) إلى الحصول على مليون ونصف مليون صوت إضافي لصالحهم، فيما اعتبر قادة في حزب الشعب الجمهوري أن الرئيس التركي وحزبه يريدان توطين اللاجئين السوريين في الولايات ذات الأغلبية الكردية والعلوية، ما يعني القيام بعمليات تغيير ديموغرافية فيها. وقد سبق أن تعهد رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، في أكثر من مناسبة، وكذلك فعلت زعيمة الحزب الجيد، ميرال أكشينر.
وفي سياق الجدل السياسي داخل الأوساط التركية بشأن تجنيس السوريين في تركيا، كان وزير
“يتحدّث قادة أحزاب المعارضة على الدوام عن ضرورة إعادة السوريين إلى بلادهم” الداخلية، سليمان صويلو، قد صرح أخيرا، أن 53 ألف سوري حصلوا على الجنسية، يستطيعون التصويت في الانتخابات المحلية التي انتظمت في البلاد نهاية مارس/ آذار الماضي، وأن إجمالي عدد السوريين الذين حصلوا على الجنسية التركية هو 79 ألفاً و820 شخصاً.
ويسهم خطاب المعارضة في تأجيج غضب الأتراك حيال السوريين، إذ بدلاً من بحثها عن مشاريع تكامل وإدماج، يتحدّث قادة أحزاب المعارضة على الدوام عن ضرورة إعادة السوريين إلى بلادهم، وخصوصا في الفترات التي يقترب فيها موعد الاستحقاقات الانتخابية، ما يعني توتير الأجواء المناهضة للسوريين في تركيا، مع أن المجتمع التركي كان مرحباً باللاجئين السوريين في البداية، لكنه بات يتأثر سلبيا مع تزايد خطابات الكراهية في الأوساط السياسية القومية التركية.
ولا شك في أن مسألة اللاجئين السوريين وأوضاعهم مرتبطة، بشكل أساسي، بالحل السياسي للقضية السورية الذي يبدو أنه بعيد المنال وفق المعطيات الراهنة. وبالتالي، لن يهدأ الجدل التركي بشأن اللاجئين السوريين، وهو مرشح للاحتدام، إضافة إلى التنافس التركي مع دول الاتحاد الأوروبي لاستقطاب الكفاءات والخبرات السورية، ذلك أن المسؤولين الأتراك لم يُخفوا عزمهم على الاستفادة من قدرات السوريين وطاقاتهم، وأبدوا، في أكثر من مناسبة، رغبتهم في ألا يهاجر أصحاب الكفاءات إلى الدول الأوروبية، وأكدوا أن حكومتهم أخبرت أعضاء الاتحاد الأوروبي، بشكل رسمي، بأنها لن تسمح بنقل اللاجئين السوريين، من ذوي الخبرات والكفاءات العلمية، ضمن الاتفاق الذي أبرمته تركيا مع الاتحاد الأوروبي في عام 2016.
والحاصل أن أوضاع السوريين في تركيا ستبقى مادة للتجاذب السياسي في البلاد، ولن تتحسّن إلا حين تحل أسباب لجوئهم، إذ أن تجنيس بعضهم لن يحل مشكلتهم، ولن ينهي معاناتهم. وإن كان ثمة حلّ، فهو يتجسّد في حل سياسي يوفر لهم بيئة آمنة، كي يعودوا إلى بلدهم، ويسهموا في بناء سورية جديدة، تتسع للجميع، وفق مبدأ المواطنة المتساوية، ولا مكان فيها لاستبداد النظام السوري الذي عمل بشكل ممنهج على تهجيرهم قسرياً إلى المنافي.
العربي الجديد