منذ انخراط النظام السوري و”حزب الله” اللبناني وميليشيات “الحرس الثوري” الإيراني، بموافقة من موسكو وإسناد تامّ من الطيران الحربي الروسي، في الحملة العسكرية ضدّ مساحات ومواقع منتقاة في جنوب محافظة إدلب وشمال محافظة حماة؛ تبدلت أقدار المعارك على الأرض، بين انتصارات سريعة أولى، أعقبتها انكسارات وانهزامات ملموسة، وأحياناً مفاجئة تماماً، تعرّضت لها أطراف الحملة في القتال ضدّ فصائل المعارضة المختلفة.
وإلى جانب تسجيل روح قتالية عالية طبعت سلوك فصائل المعارضة، على اختلاف مشاربها وعقائدها وولاءاتها الخارجية في الواقع، لعلّ أحد أبرز الأسباب وراء تبدّل تلك الأقدار إنما يعود إلى الارتفاع الملحوظ، الكمّي والكيفي، في منسوب تسليح المعارضة، وهو أمر راجع في المقام الأّول إلى تحوّلات تكتيكية في المقاربة التركية لملفّ إدلب خصوصاً؛ وللترتيبات والتوافقات التي توصلت إليها أنقرة مع موسكو بصفة أعمّ، وخضعت لهذه الدرجة أو تلك من الخروقات المتبادلة والتلاعب والمناورة، على الجانبين.
سبب آخر جدير بالتوقف عنده، ليس في مثال حملة إدلب وحدها، بل على صعيد مناطق الساحل السوري المتاخمة، وسهل الغاب، وقوس القرى والبلدات التي تقطنها غالبية من أبناء الطائفة العلوية؛ أي الصراع المحتدم بين فريق أوّل يضمّ في صفوفه ما تبقى من جيش النظام، وأفواج الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والميليشيات المختلفة؛ وفريق ثانٍ قوامه الفيلق الخامس الذي يقوده سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”، فضلاً عن ميليشيات متفرقة تعود في أصولها إلى “قوات الدفاع الوطني” أو “كتائب البعث”. خلف هذا الانقسام ثمة إيران، التي تساند الفريق الأوّل، وماهر الأسد ورامي مخلوف وغالبية من حيتان الفساد؛ وثمة موسكو، متمثلة ميدانياً في قاعدة حميميم الجوية والشرطة العسكرية الروسية، التي تزوّد “النمر” بالعتاد والزاد والكساء (الأرفع نوعية عن ذاك الذي تتلقاه الوحدات النظامية في الفريق الأوّل)، مثلما تمنحه غطاء سياسياً وأمنياً معلناً.
سبب ثالث، يفسّر انحطاط المعنويات القتالية لدى أفراد الفريقين معاً هذه المرّة، هو أنّ عشرات الجثث التي تصل من ميادين القتال في إدلب إلى قرى الساحل السوري تحديداً، وبنسبة لا تُقارَن مع تلك التي تصل إلى مناطق أخرى من سوريا؛ إنما تضرب أكثر من وتر حساس لدى الأهالي، لاعتبارات عديدة في رأسها أنّ بعض القتلى سقطوا نتيجة اقتتال أبناء الموالاة للنظام، في الفريقين معاً، ضدّ بعضهم البعض وليس في مواجهة المعارضة. اعتبار آخر هو أنّ الجثث تصل إلى مناطق يواصل ضباع آل الأسد نهبها وترهيبها، وحيث تسود اعمال خطف الرهائن واللصوصية وتهريب المخدرات وفرض الأتاوات دون رادع أو حسيب (كما في حكاية بشار طلال الأسد قائد الميليشيا الذي قاتل قوات الحرس الجمهوري في الفاخورة، قرب القرداحة، لمنع اعتقال مهرّب مخدرات يحظى بحماية سليل آل الأسد).
“نمور”، إذن، في مواجهة “ضباع”، داخل البيت الأسدي ذاته؛ الذي لا يتفتت ويتشرذم بفعل عوامل الحتّ الطبيعية وحدها، بل تساهم في سيرورة تآكله بعض العناصر إياها التي اتكأ عليها النظام في منجاته وفي مقدمتها روسيا، سواء جيشها الذي يقصف في إدلب، أو شرطتها العسكرية التي تردع، أو اقتصادها الذي يحتكر في ميناء طرطوس. وليس من دون مغزى عميق أنّ هذه التحوّلات نزعت صورة حسن نصر الله، وقبله حافظ وباسل وبشار وماهر الأسد، عن جدران آلاف البيوت الفقيرة المتواضعة في قرى الساحل السوري، واستبدلتها بصورة المخلّص الجديد: بو علي بوتين!
كذلك ليست البتة مفارقة، لأنها ديدن أنظمة الاستبداد على شاكلة آل الأسد/ مخلوف/ شاليش تحديداً، أن يكون المستبدّ الأوّل، بشار الأسد، هو مشرّع هذا الانقسام بين “النمور” و”الضباع”؛ من خلال المرسوم التشريعي 55 لعام 2013، والذي أجاز منح التراخيص لشركات خدمات الحماية والحراسة الخاصة، ودشّن قانونية وجود الميليشيات الخاصة. رامي مخلوف أنشأ “البستان”، وكذلك فعل مؤسسو “نسور الزوبعة” و”قوّات الغضب” و”سوتورو” و”لواء الإمام المهدي” و”لواء درع الساحل” و”نسور الصحراء”… فلم لا يبادر بوتين، بدوره، إلى إنشاء الفيلق الخامس! وكيف، بعدها، لا تندلع الحروب بين الوحوش!
القدس العربي