ثمة تساؤلات طُرحت خلال السنوات الماضية حول حدود المشاركة الألمانية في قيادة النظام العالمي، حيث افترض الكثير من التحليلات أن السياق الدولي الراهن سيؤدي إلى تنامي الدور الألماني بفعل امتلاك ألمانيا للعديد من المقومات، لعل أبرزها قاعدة صناعية متميزة، وأوضاع اقتصادية وسياسية تجعلها مختلفة عن العديد من الدول الأوروبية، التي مرت خلال السنوات الأخيرة بأزمات اقتصادية حادة هددت المشروع الأوروبي الموحد ككل.
بدا السياق الدولي أيضا معززاً لاحتمالات اللحظة الألمانية، حيث إن النظام الدولي لم يعد مستقراً، وشهد العديد من التحولات التي تشير بدرجة أو بآخرى إلى انتقاله لنمط القيادة المتعددة، التي لا تقتصر على القيادة الأمريكية المنفردة، ولكنها تنطوي على مشاركة فاعلين مختلفين في إدارة النظام الدولي.
في هذا السياق، يتناول توماس باجر من خلال تحليله المعنون بـ “اللحظة الألمانية في عالم هش”، بدورية واشنطن الفصلية Washington quarterly في عدد شتاء 2015، احتمالية الصعود الألماني في النظام الدولي الراهن، ويستدعي في تحليله رؤية متوازنة تمزج بين مقومات الدور الألماني، والتحديات التي تواجه هذا الدور، إذ إن نتاج التفاعل بين الأمرين سيحدد ماهية الدور الألماني في النظام الدولي.
مقومات اللحظة الألمانية
شكلت لحظة إسقاط حائط برلين، وتحقيق الوحدة الألمانية مرحلة مهمة في التاريخ المعاصر للدولة الألمانية، فقد سعت برلين بعد الوحدة إلى التكريس لنمط الدولة المستقرة سياسياً واقتصاديا، والتي تطمح إلى دور أكبر على الساحة الدولية. واستمر هذا الإطار الفكري هو المحرك لكافة الحكومات الألمانية، التي سعت في الوقت ذاته إلى توظيف مكامن القوة المتاحة لديها لتعزيز النموذج الألماني. وفي هذا السياق، يفترض باجر أن النموذج المثالي لألمانيا يتصل بأربعة مقومات أساسية، هي:
أولاً- التكيف مع العولمة: ففي عام 2003، أطلقت الحكومة الألمانية برنامجا عُرف بأجندة 2010، وكان الهدف من هذا البرنامج القيام بإصلاحات داخلية لتعزيز نظام الرفاه الاجتماعي، وتحقيق المزيد من المرونة في سوق العمل. وفي حينها، ظهر أن هذا البرنامج يواجه بالكثير من الانتقادات والمعارضة، والتي كانت سببا في خروج المستشار الألماني، جيرهارد شرودر، وحزبه الاشتراكي الديمقراطي من السلطة في 2005. ولكن بعد مرور سنوات على طرح هذا البرنامج، اتضح أنه يقدم مدخلا جديدا لألمانيا للاستفادة من ثمار العولمة.
أدت أجندة 2010 وما ارتبط بها من إصلاحات اجتماعية واقتصادية إلى تخفيض تكلفة وحدة العمل، ومن ثم جعلت ألمانيا أكثر قدرة على المنافسة في السوق العالمي، فضلا عن التوصل إلى صيغة جديدة لعقد اجتماعي يتيح التكيف مع متطلبات العولمة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على منظومة راسخة من العلاقات بين الدولة ورجال الأعمال والعمال، والتي تأخذ في حسبانها مركزية التماسك المجتمعي كضمانة لعدم حرمان أي فئة من نتاج العولمة. وقد كان لهذه المعطيات تأثير إيجابي فى الوضع الاقتصادي الداخلي، والذي شهد، على سبيل المثال، تراجع معدل البطالة إلى 6%، وهو يساوي نصف ما كان عليه تقريباً في عام 2005.
ثانياً- الصناعة الألمانية: ثمة افتراض انتشر في بداية الألفية بأن المستقبل سيكون لمصلحة صناعة الخدمات، ولاسيما الخدمات المالية، ولكن بدا أن هذا الافتراض لا يتماشى مع الواقع الألماني. فالقطاع المالي تسبب في الكثير من المشكلات التى أدت إلى تراكم الفقاعة المالية في عام 2008. وعلى النقيض من هذه الإخفاقات في القطاع المالي، كانت الصناعة الألمانية بمنزلة القاطرة الرئيسية للاقتصاد الألماني، حيث لم تتعرض الصناعة لتأثيرات كبيرة أثناء الأزمة المالية، وهو ما يعود إلى طبيعة الصناعة الألمانية التي تسيطر عليها شكوك تجاه منظور الأعمال القصيرة المدى، حتى ولو كانت تحقق أرباحا، فضلا عن هيكل الصناعة، الذي يستند بصورة جوهرية إلى الشركات العائلية متوسطة الحجم، وتعتمد في تمويلها على الأصول التي يتم توارثها من جيل لآخر، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى مساهمين، وليست مدرجة في سوق الأوراق المالية.
وقد وظف الكثير من هذه الشركات العولمة في الحصول على مكاسب عديدة، كما أن التوسعات التي شهدها الاتحاد الأوروبي في 2004 أتاحت للشركات الألمانية الفرصة لتوسيع نشاطها في وسط وشرق أوروبا. وفي الوقت ذاته، أثبتت هذه الشركات قدرة عالية على التكيف مع الصعود الصيني الذي يشكل منافسة اقتصادية هائلة. ونتيجة لهذه القدرات الصناعية، تجاوزت الصادرات الألمانية خلال الصيف الماضي 100 مليار يورو في شهر واحد، وهو معدل يحدث لأول مرة.
ثالثاً- الطاقة المتجددة: حيث شهدت السنوات الأخيرة توجها ألمانيا حثيثا تجاه الطاقة المتجددة، والاقتصاد الأخضر. وقد شكلت المتغيرات الدولية محفزا جوهريا لهذا التوجه، خاصة مع حادث مفاعل فوكوشيما النووي في اليابان في مارس 2011، وهو الحادث الذي دفع الحكومة الألمانية إلى التخلص التدريجي من 22 مفاعلا نوويا، وإحلال مصادر الطاقة المتجددة محلها. علاوة على ذلك. فإن ارتفاع استهلاك الطاقة العالمي (ولاسيما في المجتمعات الآسيوية الصاعدة) فرض ضغوطا مستقبلية على الموارد المتاحة بالتوازي مع تنامي الانبعاثات الضارة، والمشكلات البيئية.
وبالرغم مما تمثله هذه المعطيات من محفز للانتقال الألماني تجاه الطاقة النظيفة، فإن ثمة قضايا يتعين حسمها، ومن ضمنها حشد الاستثمارات المطلوبة، وبناء الشبكة الذكية القادرة على نقل طاقة الرياح من بحر الشمال إلى المصانع في الجنوب، بالإضافة إلى التعاطي مع ارتفاع أسعار الطاقة بالنسبة للمستهلكين والقطاع الصناعي.
رابعاً- الانفتاح المجتمعي: أثناء العقود الماضية، أصبح المجتمع الألماني أكثر انفتاحا على الآخر وتقبلاً للمهاجرين. ومن هذا المنطلق، احتلت ألمانيا المرتبة الثانية، بعد الولايات المتحدة، في قائمة الهجرة لعام 2014 الصادرة عن منظمة التعاون والتنمية، لتسبق بذلك دولا كلاسيكية شهيرة بالهجرة كاستراليا وكندا. وفي عام 2013، وصل عدد المهاجرين لألمانيا إلى 437 ألف مهاجر. وفي الوقت الراهن، يوجد أكثر من 16 مليون شخص داخل ألمانيا ممن لهم أصول وخلفيات مهاجرة ليمثلوا بذلك نحو 20% من المجتمع الألماني، والكثير منهم أصبحوا مواطنين ألمانيين. وهكذا، يفترض الكاتب أن هذه التطورات منحت المجتمع الألماني المزيد من الثراء الفكري المرتبط بالتنوعات.
تحديات الصعود الألماني
تقدم مقومات القوة السابقة لألمانيا حيزا ممتدا للتحرك على الساحة الدولية، وتدعيم مشاركتها في قيادة النظام الدولي. بيد أن هذه المقومات تظل مرتهنة– وفقاً لباجر– بمعادلة معقدة تنطوي أيضاً على مجموعة من التحديات، يمكن اختزالها في أربع قضايا رئيسية، هي:
أولاً- التطورات التكنولوجية: حيث تفرض القفزات التكنولوجية المعاصرة تحديا كبيرا أمام الصناعة الألمانية، فمعظم التطورات التكنولوجية والابتكارات الرقمية تأتي من شركات وادي السليكون، وهذا الأمر يثير عدة تساؤلات إشكالية من قبيل مدى إمكانية الشركات الصناعية الألمانية الإبقاء على مستواها التنافسي، وهل ستكون الشركات الألمانية سريعة بما فيه الكفاية لتطوير خبرات تقنية المعلومات لديها، ودمج مكونات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في منتجاتها الهندسية المتفوقة بصورة تكفل لها مواجهة الشركات التكنولوجية الكبرى التي تخترق الصناعات واحدة تلو الأخرى. وتستدعي هذه التحديات من الحكومة إعطاء الأولوية لتمويل الأبحاث العلمية والاستثمار في التكنولوجيا المتطورة.
ثانيا- التحدي الديموجرافي: فخلال السنوات الماضية، بدت الاتجاهات الديموجرافية معضلة مركزية في المجتمع الألماني، حتى مع محاولات دمج المهاجرين. هذه المعضلة تستدعي بعدين مهمين، أحدهما أن تراجع تعداد السكان سيفضي حتماً إلى تداعيات اقتصادية سلبية، لاسيما مع اختلال الهرم العمري للسكان، وتقلص القاعدة العمالية المؤهلة القادرة على ضمان استمرار الصناعة الألمانية. ومن جهة أخرى، فإن قضية المهاجرين تطرح هي الأخرى إشكالية، خاصة أن الكثير من المهاجرين يأتون من دول إفريقية وعربية محتدمة بالأزمات والمشكلات، والتي قد تنتقل بشكل أو بآخر إلى المجتمع الألماني عبر هؤلاء المهاجرين. وعطفاً على ما سبق، فإن الحكومة الألمانية ستكون مطالبة بالتعامل الإيجابي مع هذا التحدي الديموجرافي الذي قد يعرقل الصعود الألماني.
ثالثاً-مستقبل الاتحاد الأوروبي: فقد تعرض المشروع الأوروبي الوحدوي في السنوات الأخيرة لبعض الإشكاليات، كانت بدايتها مع فكرة العملة الموحدة- اليورو- في 2002، حيث إن إنشاء وحدة نقدية بدون اندماج كامل للسياسات الاقتصادية والمالية لم يؤد إلى إحداث التقارب المنشود بين اقتصادات منطقة اليورو. وبحلول عام 2010، شهدت الدول الأوروبية أزمة الديون السيادية، وهي الأزمة التي خلقت مأزق ثقة في فكرة الوحدة الأوروبية. ولا يمكن إغفال أن هذه المتغيرات شكلت ضغوطا على برلين. فهي من جهة، كانت تتحمل تكاليف إخفاقات الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي، على أساس أنها أفضل اقتصاديا، مقارنة بالدول الأخرى، ومن جهة أخرى، فإن تدهور أوضاع الاتحاد الأوروبي يمثل مصدر قلق لبرلين، لا سيما أنها تعتمد في تأثيرها فى القيادة، من خلال نموذج الاتحاد الأوروبي. وارتباطا بذلك، سيكون على ألمانيا تحديد ما الذي ستفعله في حال أخفق حلفاؤها في التعاطي مع متطلبات وضغوط العولمة السياسية والاقتصادية، وما الذي سوف تفعله إذا وجدت أن تضامنها مع حلفائها سيؤثر سلباً في وضعها الاقتصادي الداخلي.
رابعاً- تهديدات النظام الليبرالي: وهو ما يطلق عليه باجر “تهديد العولمة تحت الحصار” كدلالة على التحديات والتهديدات التي تعترض النظام الليبرالي في لحظته المعاصرة، والتي تنعكس أيضاً على برلين، ومن مصادر هذه التهديدات روسيا التي ترفض التعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا، وتعتمد على بناء قدراتها الذاتية، والحفاظ على المجال الحيوي الخاص بها بعيداً عن أي تدخلات خارجية. هذا الأمر تجلى بوضوح في الأزمة الأوكرانية الأخيرة. وبجانب التهديد الروسي، فهناك تهديد آخر قادم من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إذ إن التنظيم يقدم نموذجا لتنظيم راديكالي يتوسع وينشئ دولته الخاصة. ويجد هذا النموذج قبولا لدى العديدين داخل الغرب، وبالطبع ألمانيا، التي شهدت انتقال عناصر شبابية (يقدر عددهم بنحو 550 ألمانيا) إلى سوريا للقتال في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي السياق ذاته، يواجه النظام الليبرالي مشكلة الأمراض الوبائية مثل الإيبولا، والمشكلات التي يتم تصديرها من الدول الفقيرة التي عجزت عن التكيف مع ضغوط العولمة، علاوة على تحدي الصعود الصيني، والذي يستصحب معه النسخة السلطوية من الرأسمالية التي لا تتقارب مع منظومة الغرب القيمية. ومن ثم، سيكون لهذا الصعود انعكاسات أبعد من آسيا، ومن شأنها أن تغير طرق الإنتاج والاستهلاك، وملامح النظام الدولي الحالي.
ويخلص باجر إلى أن تعزيز الدور الألماني في السياق الدولي سيتطلب من برلين التعاطي الإيجابي مع التحديات المفروضة، والتكريس لمقومات القوة الداخلية المتاحة لديها، وبالتالي الانطلاق نحو المشاركة الفعالة في صياغة أطر للنظام الدولي غير المستقر في الوقت الحالي، بصورة تحدد نمط القيادة المستقبلية لهذا النظام، وتوزيع الأدوار على القوى الصاعدة لمواجهة الأزمات الآنية.
رؤية مغايرة
بالتوازي مع الرؤية التي طرحها توماس باجر في مقاله، فإن ثمة اتجاها تحليليا مغايرا يرى أن المتغير الجوهري في معادلة الصعود الألماني يتمثل في تقديرات القيادة الألمانية، ومدى رغبتها في المشاركة في قيادة النظام الدولي، لاسيما مع وجود بعض العوامل التي قد تفرض ضغوطا على صانع القرار الألماني، وتجعله مترددا في تحمل مسئولية القيادة الدولية.
أول هذه العوامل يتصل بالإرث التاريخي للدولة الألمانية، والحروب التي خاضتها، وكان لها تأثير مدمر بالنسبة للدول الأخرى. ولا يمكن إغفال أن هذا الرصيد التاريخي سيظل له تأثيراته الضمنية على النخبة الألمانية، فضلاً عن القوى الأخرى التي قد تتخوف من صعود ألماني يستدعي في المخيلة الإرث التاريخي.
من ناحية ثانية، فإن مقومات القوة لأي دولة ترغب في القيادة العالمية عادة ما تكون مقومات متنوعة تجمع بين القوة العسكرية، والاقتصادية، والدبلوماسية، وهي المقومات التي قد لا تتوافر بالقدر الكافي في المجمل بالنسبة لبرلين، خاصة فيما يتعلق بالجانب العسكري، إذ إن القوة العسكرية الألمانية تعد أقل، مقارنة بدول أخرى داخل أوروبا، مثل بريطانيا وفرنسا، وهو أمر لا يبدو أن صانع القرار يرغب في تغييره.
ومن الشواهد على ذلك ما قام به البرلمان الألماني في شهر يونيو الماضي، حينما صوت على تخفيض ميزانية الدفاع بنحو 800 مليون يورو، وهو القرار الذي جاء عقب تزايد الانتقاد الأمريكي لألمانيا بعدم الاضطلاع بدور كاف في عمليات الحفاظ على الأمن العالمي.
ثمة عامل ثالث يرتهن بطبيعة الصعود الألماني، إذ إن هذا الصعود ارتبط في المقام الأول بالشراكة الأوروبية، وعلى وجه الخصوص مع فرنسا. فخلال العقود الماضية، عولت ألمانيا كثيراً على الاتحاد الأوروبي لتحقيق الكتلة الحرجة من أجل التأثير، وتشكيل ظاهرة العولمة، وتحقيق السلام والرخاء. ولكن مع تعرض النموذج الأوروبي الموحد لاهتزازات عنيفة، باتت برلين ونخبتها أكثر حساسية تجاه الانخراط في قضايا النظام الدولي. فأزمات الاتحاد الأوروبي فرضت على ألمانيا تكاليف باهظة، ولا يمكن توقع إلى أي حد يمكن للرأي العام الألماني أن يستمر في تحمل إخفاقات الدول الأوروبية الأخرى.
ومع كل هذا، ستظل قضية الاتحاد الأوروبي هي القضية الأكثر تأثيراً فى ألمانيا، وعلى أساسها ستتحدد ملامح مشاركة
ألمانيا في قيادة النظام الدولي.
توماس باجر
عرض: محمد بسيوني
مجلة السياسة الدولية