يشكل قطاع الشباب – أي المواطنين بين أغمار 15 و30 سنة – أكثر من ثلث المجتمع في المجتمعات العربية. تشكل هذه الفئة نواة المستقبل في أي وطن، وكان الشباب رأس الحربة في الانتفاضات التي اندلعت عام 2011 مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن، تم دفعهم جانباً من قبل الحركات الإسلامية الأكثر تنظيماً أو قوى «الدولة العميقة» العائدة. إنما خيارات الشباب وتأثيرهم سيحدد مستقبل المجتمعات العربية على المدى البعيد. وعلى رغم الأحداث المأسوية التي تسيطر على عناوين الصحف اليوم، فإن غالبية الشباب العربي تطمح إلى العيش في مجتمعات مستقرة ومعتدلة ومتنوعة وديموقراطية.
يمثل تحدي الشباب في بعض جوانبه ظاهرة من ظواهر الحداثة. في الأزمنة ما قبل الحديثة كان الأهل يتفادون تحديات سني المراهقة بتنظيم زواج الأولاد سريعاً بعد الوصول إلى سن البلوغ ويحملونهم مباشرة أدواراً ومسؤوليات مثل الراشدين ضمن الاقتصاد والمجتمع الزراعي الذي لا حاجة فيه إلى سنين من الدراسة والتأهيل. أما في عالمنا اليوم فإن فترة الانتقال ما بين مرحلة الطفولة ومرحلة البلوغ تمتد لسنوات عدة. إن هذه الفترة، خصوصاً في العالم العربي، طويلة وصعبة جداً بسبب ارتفاع معدلات البطالة، وصعوبة إيجاد المسكن، ووجود حظر مجتمعي عام على العلاقات الجنسية قبل الزواج. لهذا، فغالباً ما يظل الشباب والشابات في الكثير من الدول العربية في حالة توتر وإحباط شديدين، ابتداء من سن المراهقة وصولاً إلى عمر الثلاثينات في كثير من الحالات، أضف إلى ذلك حظراً عاماً على المشاركة السياسية والتعرض لمستويات عالية من القمع، ونستطيع أن نقدر حجم التحديات.
في النصف الأول من القرن العشرين، كان ينظر إلى الشباب على أنهم أمل الأمة ومحرك التغيير والقيادة الجديدة. وقد قامت الثورات والانقلابات في العالم العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تحت شعارات تحمل اسم جيل من الشباب انتفض ضد فساد جيل الكبار وخمولهم. ولكن في وقت لاحق، أصبح ينظر إلى الشباب على أنهم «مشكلة»، بل أنهم مصدر تهديد للدولة والمجتمع. وسعت الحكومات إلى مواجهة هذا «التهديد» من خلال السيطرة على المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، ومن خلال مؤسسات التجنيد العسكري وجهاز استخبارات متغلغل.
ولكن، مع انتشار القنوات الفضائية وتطور شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، ظهر مجال عام جديد – افتراضي، ولكن حقيقي جداً! – ليس للدولة سيطرة تذكر عليه.
أبدت الدولة قلقها من الفضائيات، لكنها اعتقدت أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي توفر مساحة غير مقلقة للدولة حيث يمكن الشباب أن يمضوا أوقاتهم في الدردشة ومشاهدة أشرطة الفيديو. لكن الدولة فشلت في إدراك أن هذه المجالات الجديدة شكلت فضاء حقيقياً لتشكيل الرأي العام ولحشد الشباب تجاه العمل العام. وقد رأينا نتائج ذلك في المرحلة الأولى من الثورات العربية.
ولم تكن الدول فحسب هي التي شعرت بأنها مهددة من جانب تمكين الشباب، بل المجتمع الأبوي نفسه، فضلاً عن السلطات والتيارات الدينية. فقد هزهم هذا القطاع الكبير من المجتمع الذي لا يندمج في شكل سلس في البنية السياسية والاجتماعية القائمة والذي يشكل جزءاً من ظاهرة متنامية لشباب العولمة. ويشعر المجتمع الأبوي والديني بالقلق، ولا سيما أمام مطالب مساواة المرأة ضمن هذه المجموعة. وبدأنا نرى عودة لصورة الدولة أو الزعيم «الأب» وهياج غاضب من جانب الحركات الدينية المتطرفة التي تحاول إجبار النساء على الخضوع بالقوة.
لكن هموم الشباب يجب أن تبقى نصب أعيننا. وفي استطلاع للرأي أخيراً أجرى مقابلات مع الشباب من 16 دولة عربية (*1)، ظلت البطالة على رأس قائمة أولوياتهم. فالوظيفة هي التي تفتح الباب أمام الشباب للانتقال إلى مرحلة الاستقرار، من خلال تأمين الدخل، والسكن، وتكوين أسرة. فهناك 500 ألف شاب يدخلون سوق العمل العربي كل عام. وسيظل تحدي النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل حاجة استراتيجية رئيسية في المنطقة على مدى العقود المقبلة.
لكن المثير للقلق في هذا الاستطلاع، هو تراجع اعتقاد الشباب بإمكان الوصول إلى الديموقراطية في العالم العربي في المستقبل المنظور. فبين عامي 2011 و2014، أدرج الشباب الذين شملهم الاستطلاع «غياب الديموقراطية» باعتبارها العقبة الأولى التي تواجه المنطقة. وفي عام 2015، أصبح القلق من «داعش» وانتشار الإرهاب والتطرف في الأولوية، وتراجعت الديموقراطية على قائمة الأولويات.
إن التجارب المخيبة للآمال في التحولات الديموقراطية منذ 2011 التي جرت في الدول العربية الخمس التي نجحت منها واحدة فقط، أدت إلى ضعف الاعتقاد في نجاح الديموقراطية يوماً ما في العالم العربي. أجاب أربعون في المئة من الشباب الذين شملهم الاستطلاع في عام 2015 أنهم لا يعتقدون أن الديموقراطية سيتم تطبيقها يوماً ما في العالم العربي، وهذا موقف مذهل بعد أيام سادها الأمل الديموقراطي في عام 2011. والواقع أن الرواية القديمة التي تقول أن الخيار الوحيد هو بين التطرف الديني والدولة السلطوية يبدو أنها قد عادت من جديد لتنتشر حتى بين الشباب في المنطقة.
لكن هناك بيانات أخرى تشير إلى اتجاه مختلف. حيث تظهر دراسة البيانات عبر الإنترنت في العالم العربي اتجاهاً واضحاً ومستمراً نحو القيم والأفكار الليبرالية التي تؤمن بالحرية والديموقراطية والمساواة بين الأجناس والتنوع وقبول الآخر. كما أوضح أحمد بنشمسي في دراسة نشرت أخيراً (*2)، إذا وضعنا جانباً مواقع المؤسسات الإعلامية والمطربين، فإن حسابات «تويتر» العشرة الأكثر متابعة في مصر هي تلك التابعة لقادة أو معلّقين ليبراليين من أمثال محمد البرادعي وباسم يوسف وعمرو حمزاوي وغيرهم. وفي المملكة العربية السعودية، فإن ستة من عشر قنوات «يوتيوب» الأكثر مشاهدة هي البرامج الساخرة التي ينتجها عدد من الشباب السعودي غير الراضي. وقد حصلت هذه المقاطع على أكثر من 900 مليون مشاهدة حتى الآن.
ما زالت الدول السلطوية أو الجماعات المتطرفة تهيمن في الساحات السياسية التقليدية وفي ساحات الصراع المسلح، أما الفضاء المسمى افتراضياً، حيث يقضي الشباب معظم أوقاتهم ويتشكل وعيهم، فتهيمن عليه أفكار وقيم أخرى.
يحدث تغيير الأجيال ببطء شديد أحياناً. رفع هذا الجيل رأسه في عام 2011، وتعرض لضربات قاسية من جانب مؤسسات الأجيال القديمة. ولكنه لم يهزم، وفي الواقع أنه لا يمكن أن يهزم لأنه هو المستقبل. إنه ينمو على طريقته في وسائل التواصل الحديثة وبين جماعات المجتمع المدني النشطة في جميع أنحاء العالم العربي. إنه لا يحبذ استمرار النظام السياسي السلطوي القديم، ولا صعود شكل جديد من أشكال القمع الديني المتطرف. لم يجد بعد السبيل لتحويل نفسه من حالة اجتماعية وثقافية واسعة إلى قوة سياسية تستطيع أن تفرض نفسها وخياراتها، أو السبيل إلى تطوير النظام السياسي من دون التسبب في انهيار الدولة ومقوماتها أو التسبب في رد فعل عنيف.
ولكن، لا يمكن النظام القديم أن يستمر إلى أجل غير مسمى، وستفشل محاولات التطرف الإسلامي لفرض نظام توتاليتاري جديد. إن القوى القائمة اليوم لا تزال تمثل تراكمات الماضي، ولكن يجري تشكيل المستقبل بين شباب اليوم. وستشرق شمس هذا الجيل في سنوات ليست بعيدة، لا محالة.
بول سالم
صحيفة الحياة اللندنية