إشكاليات التماسك.. العبادي وملف المصالحة الوطنية

إشكاليات التماسك.. العبادي وملف المصالحة الوطنية

497956-300x149

بحسب معلومات حصل عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فان اجتماعا هو الاول من نوعه تحقق بين السفير الامريكي ستيوارت جونز وسفير المملكة المتحدة فرانك بيكر والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق السيد يان كوبيش مع رئيس الوزراء حيدر العبادي في 30/6/2015 بقصد تفعيل عملية المصالحة الوطنية برعاية اممية، بعد التلكوء الذي ابداه الاخير في هذا الاتجاه.

وما لم تفصح عنه وسائل الاعلام التي نقلت الخبر، ان العبادي الذي اعلن عن استعداده لجهة البدء بمشروع المصالحة الوطنية، واجه لهجة متشددة من قبل الدبلوماسيين، الذين اكدوا له ان الوقت بدأ ينفد وعلى بغداد ان تكون اكثر واقعية، إذ لا يوجد وقت للمزيد من المراوغة، محذرين من حدوث ما لايحمد عقباه. وبالتالي فان سقفا زمنيا لا يتجاوز الاسابيع لابد ان يحدد للبدء الجاد بعملية المصالحة.

ويمكن تفسير ما دار في الاجتماع، بالالتفات إلى ثلاثة أخطاء كبرى ارتكبت في العراق. الأول يتبدى في موقف الحكومة حين اغفلت عن حقها في محاسبة ومساءلة الساسة الذين عبثوا بالمال العام واهدروه لمصالح ضيقة، لتعزز من قبضتهم على السلطة، وتغض الطرف عن شبكة داعمة لهم وممتدة في اهم المؤسسات الحكومية، الامر الذي عرقل اتخاذ قرارات ضرورية وحاسمة.

الخطأ الثاني ارتكبه سياسي اتجه إلى ممارسة السلطة على قاعدة “اضرب ولا تبال” فالآخر ليس الا “ارهابيا”، ما رسخ لمشاعر الثأر والكيدية، وقد يكون المالكي مستمتع برؤية غريمه العبادي مقيدا بأرث ثقيل، عجز عن معالجته. لكن البراعة جانبته حين كان سببا رئيسا في سقوط الموصل، واستيلاء “داعش” على أسلحة الجيش، والتي تقدر بملايين الدولارات، لتدخل البلاد والمنطقة في دوامة المجهول.

ويمكن القول أيضاً أن إيران ارتكبت في العراق خطأ يمكن اعتباره مجازفة خطرة، وان ما ستواجهه طهران في مراحل مقبلة، قد يشي بتزايد الانقسام الشيعي-الشيعي، فالميليشيات بعد الانتهاء من مقاتلة “الدولة الاسلامية” لن تقبل الا بوضع اليد على السلطة، ما يعني انها ستخوض فيما بينها صراعا لتثبيت من ستكون له الغلبة في قادم الايام، فالبراعة الإيرانية في السيطرة على العراق، ستعقبها عقبات جسيمة تواجه مصالح طهران في المنطقة، مع تصارع حلفائها على المصالح والنفوذ. نشير هنا الى تأكيدات خامنئي من ان “الحشد الشعبي يشكل ثروة عظيمة للعراق وسيؤدي دوراً مهماً في مستقبل العراق وتنميته”.

وتأسيسا على ما تقدم، فان لهجة التحذير الغربي القاطعة، انطوت على تذكير بان الخلافات السياسية الشيعية – الشيعية، ستفتح الآفاق لاستقطاب ميليشياوي، يفضي في نهاية المطاف، الى تحجيم سلطة العبادي او حتى ازاحته، لتكون كل ميليشيا سندا لقوة او مجموعة سياسية، وبالتالي فان لحظة الصدام ليست مستبعدة، يساند ما تقدم متغيرات عديدة، وهي في أغلبها معروفة للمتتبع، منها الطائفية السياسية، وتفشي الفساد، والمحسوبية الحزبية والشللية، فضلا عن غياب الثقة بين اطراف النزاع الذي يعد التحدي الاهم، إذ لا يمكن الشروع بعملية مصالحة وطنية، من دون أرضية مشتركة بين المتنازعين.

ففي سياق التأزيم المقصود تتزايد الضغوطات التي تفتعلها كتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق” وميليشيات أخرى موجودة في الساحة العراقية على حكومة العبادي، تهدف إلى تخريب أي محاولات للتقارب بين الأطراف الشيعية القائدة للحكومة والقوى العراقية المشاركة فيها، وصولا لبذر الشقاق وتفجير الاحتراب بين القوى العراقية لإيصالها إلى مستوى القطيعة، كي تتهيأ الفرصة لاستغلال الوضع وفرض وجودها على الساحة بديلا عن قوى شيعية يتهمها قادة الميليشيات بأنها قدمت تنازلات للمكون السني ما يمثل تقويضا لدعائم حكم الشيعة في العراق.  

يكمل ما تقدم، سوء استخدام المتغير الطائفي، الذي اوجد صدعا مجتمعيا ووطنيا بسبب سياسات الثأر والانتقام، حيث اضحى الارهاب قرينا بالعرب السنّة ومن يقودهم، ليجر إلى انتهاكات جسيمة تعرضوا لها، ما افسح المجال امام تمدد التنظيمات الارهابية في مناطقهم.

لذا يهد اتساع رقعة الصراع الطائفي، نتيجة لتآكل احتكار مؤسسات الدولة للقوة المسلحة وانتشار الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية والجيوش المناطقية والعشائرية والقبلية، والتي نشأت لتلبية الطلب المتصاعد على الأمن، لملأ الفراغ الناجم عن تصدع الدولة، والتي لن تستقيم اوضاعها الا بحلول ناجزة تفضي إلى  تسوية مستدامة للصراعات السياسية والمجتمعية.

وبالتالي، فان ما حمل الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها في التحالف الدولي، على ضرورة تفعيل المصالحة الوطنية، في مرحلة دقيقة، انما حفزته تمددات “الدولة الاسلامية” وسيطرتها على اجزاء من سوريا والعراق، ووصول تأثيراتها إلى شمال افريقيا، فان حديثا غربيا عن المصالحة لن يكون بهذا الوضوح والقوة.

وفي هذا الإطار، اكد المجتمعون على اهمية ردود الافعال الحكومية هنا، لانها هي من تصنع الفارق بين الوقاية من الإرهاب أو تعميقه ونشره، من خلال تشجيع المصالحة الوطنية بوصفها اداة تساعد على التغيير واحداث التحول في انساق العمل السياسي والامني، وتخفيف غلواء التصدع المجتمعي، وبما يفضي إلى بناء سلام مستدام، يستند على حوارعميق بين الأطراف المتنازعة، وصولا إلى الاعتراف بـ “الآخر”، واحترام اختلافه ومصالحه والقيم التي يعتنقها، وتمكين الفرد من استعادة قدرته على العيش مع أو جنبا إلى جنب مع غيره، وبما يسمح بوضع حد لفصول الماضي والمضي قدما في مستقبل مشترك.

ما قاله السفراء بانها الفرصة الاخيرة امام العبادي، ولابد من استغلالها قبل البدء بمعارك طرد التنظيم من الانبار والموصل، انطوى على اشارة واضحة حول مسؤولية الحكومة في تزايد الارهاب والعنف في البلاد، فالتوسع في الإجراءات الأمنية اصاب أبرياء وقلل من الرقابة على تجاوزات الأجهزة الامنية في السجون والمعتقلات، واسهم في مزيد من التطرف من الجهة الأخرى، والدفع باتجاه بناء بيئة مفككة صالحة لنمو التطرف. ففي العراق اليوم، تبدو انتهاكات حقوق الانسان بشعة إلى حد صارخ، وزاوية النظر الحكومية فقدت بوصلتها الوطنية، واتصب اهتمامها على ارضاء المصلحة الإيرانية، على نحو ما قاله فرعون “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. لتبقى الحكومة تدور بين محاولة ملاحقة الإرهاب وتقويضه، بينما تدمر ممارسات الميليشيات الانتقامية المجتمع وتفكك روابطه.

وتبدأ المعالجة من وجهة نظر غربية، بتبنى سياسات تضع حدا للعنف، فى مجتمع جرَّف الفساد أفضل ما فيه، يمزقه التفتت السياسي والطائفي، وعليه لابد ان يكون حديث المصالحة جديا، فغيابها يعني فقدان الأمل والرضا بالواقع المرير، لتفعل مقتضيات الانقسام فعلها وتتغلغل على حساب الوحدة الوطنية.

وفي حال نجحت المصالحة في “رأب الصدع” بين الاطراف المتصارعة، لتتحرك بعد ذلك نحو متطلبات العدالة الانتقالية الملازمة لتحقيق معناها، فان وجود الإرادة السياسية الواعية بأهمية تخطي اخطاء الماضي تبدو ملحة، ومن خلال عمليات حيوية وتكييفية تستهدف بناء ومداواة البنية الممزقة للعلاقات بين الافراد.

التحذيرات الغربية والاممية هذه، رجحت من احتمال استمرار الفوضى وبقاء تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، في حال بقي السنّة في وضع التهميش، والذي تفاقم عقب حكم السنوات الثمانية لنوري المالكي, في وقت تواصل فيه إيران زيادة نفوذها السياسي ببغداد عن طريق المشاركة في العمليات القتالية ضد تنظيم “الدولة” من خلال مليشيات موالية لها. بل ان تكرار سيناريو المالكي على صعيد المماطلة والتسويف في تنفيذ الاستحقاقات، لن يكون الا على حساب الاجماع الوطني. ولهذا فان التحذير الغربي يصب في اطار تذكير العبادي بان تشكيل الحكومة، نص على اتفاق وإجماع جميع الكتل على تنفيذ ورقة الاصلاح السياسي وتحقيق التوازن والمصالحة.

ولعل ما اكد عليه هذا الاجتماع، والذي عد الإجراءات الروتينية التي مر بها ملف المصالحة من إقامة مؤتمرات، وإصدار منشورات، وعقد لقاءات…الخ، لن تفضي الى حلول حقيقية، لمعالجة الازمة العراقية القائمة منذ 2003 ولغاية الآن، ما تستلزم هيكلة العملية السياسية، والغاء قوانين اجتثاث البعث، والانفتاح على الجميع. فليس من المنطقي طلب المساعدة دون العمل على حماية الذات. والتساؤل الذي يطرح هنا هل يستطيع رئيس الوزراء العراقي تغيير السياسات وايقاف الانهيارات؟ انه يحتاج بشدةٍ لنجاح يسهم في تفكيك الصراعات الداخلية، وإعادة ترتيب الاولويات الوطنية، وعلى رأسها تفعيل المصالحة الوطنية بعيدا عن الوصاية الإيرانية، وهو امر موضع نقاش.

وحدة الدراسات السياسية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية