أصدر مكتب المرجع الديني الأعلى علي السيستاني ، يوم الجمعة الماضي ، بيانا بمناسبة الذكرى الخامسة لفتوى الجهاد الكفائي، والتي تصادف الذكرى السنوية الخامسة لاحتلال محافظة نينوى من قبل تنظيم داعش الإرهابي ، ونظرًا لأهمية هذا البيان ، سيقوم مركز الروابط بتحليل محتوى فقراته على النحو الآتي:
جاء في البيان: “في مثل يوم أمس الثالث عشر من حزيران من عام 2014 – أي قبل خمسة أعوام – انطلق من هذا المكان المقدس نداء المرجعية الدينية العليا وفتواها الشهيرة بوجوب الدفاع الكفائي ، حيث دعت العراقيين القادرين على حمل السلاح للانخراط في القوات الأمنية للدفاع عن العراق وشعبه ومقدساته أمام هجمة الارهابيين الدواعش الذين كانوا قد اجتاحوا مساحات شاسعة في عدد من المحافظات ، وباتوا يهددون العاصمة بغداد ومحافظات أخرى أيضاً ، فهبّ رجال العراق الأبطال شيباً وشباباً ومن مختلف الشرائح الاجتماعية ، واندفعوا الى ساحات القتال بحماسٍ منقطع النظير ، وهمّةٍ لا توصف ، وخاضوا لأكثر من ثلاثة أعوام عشرات المعارك الضارية بكفاءة عالية ، تجلّت فيها البطولة بأروع صورها وأسمى معانيها ، وقد قدّموا عشرات الآلاف من الشهداء ، وأضعاف ذلك من الجرحى والمصابين ، في سبيل انقاذ الوطن الغالي ، وفداءً للحرمات والمقدسات ، حتى منّ الله عليهم بالنصر المؤزر ، وتمكنوا من دحر الارهابيين ، وتخليص الاراضي المغتصبة من رجس المعتدين ، والقضاء على دولتهم المزعومة.
ابتدأت الخطبة بعبارة “أقرأ عليكم نص ما ورد من مكتب سماحة السيد في النجف بمناسبة ذكرى فتوى الدفاع الكفائي “للتأكيد بأن ما يلي هو موقف المرجعية الواضح فيما يخص الفتوى التي يحاول الكثير تجييرها لصالح الجماعات المسلحة ، أو الأحزاب التي تمتلك ميليشيات مسلحة ، او حتى الحشد الشعبي ، حيث لم يرد في الخطبة أي ذكر لأيٍ منها ، وكان النص واضحا لا يقبل اللبس ، ودعت الخطبة العراقيين لحمل السلاح للانخراط في القوات الأمنية للدفاع عن العراق وشعبه ، ولمساندة الجيش العراقي في مهمته المقدسة الذي ضحى -ويضحي- للحفاظ على العراق ، فالكل تابع للقوات المسلحة العراقية التي تحظى باحترام كبير من قبل الشعب العراقي ، وهي التي تحافظ على وحدة العراق ، وهي تمثل هويته الجامعة ، فالتقديس لها وليس لغيرها على الاطلاق.
وقال البيان: ولم يكن ليتحقق هذا الانجاز التاريخي العظيم لولا تكاتف العراقيين وتلاحمهم وتوحيد صفوفهم ، وتجاوز القوى السياسية لخلافاتهم وصراعاتهم ، وتعاليهم على المصالح الشخصية والفئوية والقومية والمناطقية أمام المصلحة العليا للوطن والمواطنين من مختلف المكونات.
وهنا ، يشير المرجع الديني السيد علي السيستاني بوضوح أن النصر الذي تحقق على تنظيم داعش الإرهابي ، مرده وقوف الشعب العراقي كله صفًا واحدًا ضد ذلك العدو الذي يهدد وجود الجميع دون استثناء ، وأن النصر الذي تحقق نصر لجميع العراقيين الذين في لحظة تاريخية فارقة من تاريخ بلادهم وضعوا خلافاتهم الدينية والقومية جانبًا من أجل الحفاظ على وحدة التراب العراقي ونسيجه الاجتماعي المتمثل بالهويات الفرعية ، والتي تصب في بوتقة هوية العراق الجامعة.
وقال أيضاً: نشكر تعاون الدول الشقيقة والصديقة ومساهمتها الفاعلة في مساعدة العراق على دحر الإرهاب الداعشي.
لاشك أن هذه الفقرة من البيان كتبت بعناية فائقة ، وهي تدرك إلى ماذا تشير ، فهي تشير إلى كل الدول العربية والإقليمية والدولية التي وقفت إلى جانب العراق في دحر تنظيم داعش الإرهابي ، ولم تشر هذه الفقرة إلى دولة بعينها ، كما يحلو للبعض أن يفسرها ، وكأن يكتفي البيان بتقديم الشكر لإيران ، فالأخيرة إذا كانت المساعدة للعراق لتطهيره من دنس تنظيم داعش الإرهابي ، فهي جزء من المساعدة التعاونية التكاملية بين الدول التي ساندت ودعمت للعراق.
كما قال أيضًا: بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وتحقق الانتصار المبين ، وتم تطهير مختلف المناطق من دنس الارهابيين ، دبّ الخلاف من جديد مُعلَناً تارة ، وخفياً تارة أخرى ، في صفوف الأطراف التي تمسك بزمام الأمور ، تفاقم الصراع بين قوى تريد الحفاظ على مواقعها السابقة ، وقوى أخرى برزت خلال الحرب مع داعش تسعى لتكريس حضورها والحصول على مكتسبات معينة.
وهي إشارة واضحة لمحاولات المليشيات الحزبية ومؤسسات الحشد للحصول على مكتسبات سياسية واقتصادية ، فالمرجع الديني يريد أن يذكرهم بأن العراق ملك الجميع وليس ملكا لفصيل مسلح أو حزب سياسي.
وبيّن بأنه “لا يزال التكالب على المناصب والمواقع ومنها وزارتي الدفاع والداخلية ، والمحاصصة المقيتة ، يمنعان من استكمال التشكيلة الوزارية ، ولا يزال الفساد المستشري في مؤسسات الدولة لم يقابل بخطوات عملية واضحة للحد منه ومحاسبة المتورطين به”.
هنا يشير المرجع الديني إلى أحد أمراض العراق المستعصية في مرحلة ما بعد عام 2003م ، وهي المحاصصة الطائفية والسياسية المقيتة ، التي كانت أحد أسباب ضعف العملية السياسية في العراق ، والتي أدت بدورها إلى انتشار الفساد في كل مفاصل الدولة العراقية ، إذ أن العراق اليوم يأتي وفق تقارير منظفة الشفافية الدولية في مقدمة الدول التي توطن بها الفساد الإداري والمالي ، فالعراق لن ينصلح أمره إذا استمرت المناصب والمواقع الوزارية تدار وفق المحاصصة المقيتة.
وأشار البيان إلى أنه “لا تزال البيروقراطية الإدارية ، وقلة فرص العمل ، والنقص الحاد في الخدمات الأساسية ، باستثناء ما حصل مؤخراً من تحسن في البعض منها ، تتسبب في معاناة المواطنين وتنغّص عليهم حياتهم”.
وهنا ينتقد بيان المرجعية الحالة التي وصل إليها العراق ، وينتقد عمل البيروقراطية العراقية ، فالكل يعلم أنها تشكل إحدى معاناة الشعب العراقي ، إذ لا تسير معاملة في معظم العمل البيروقراطي دون أن يقدم المواطنين على دفع “رشاوي” لإنجاز أعمالهم ، فتحولت إلى عبء إضافيٍ لا يطاق على كاهل المواطنين ، كما يتسائل البيان كيف لدولة مثل العراق الغني بثرواته أن يعاني شبابه من البطالة ، ومجتمعه من نقص حاد في الخدمات كالكهرباء والماء والصحة ، وليس هذا وحسب ، إذ حذر البيان من ان استمرار هذه الأوضاع قد تؤدي الى نتائج لا يحمد عقباها.
كما أضاف “ولا تزال القوانين التي منحت امتيازات مجحفة لفئات معينة على حساب سائر الشعب سارية المفعول ، ولم يتم تعديلها” ، وهذه إشارة واضحة من البيان إلى غياب العدالة الاجتماعية ، وأن القوانين التي تشرعها السلطة التشريعية في العراق تعمل على خدمة فئة معينة من أبناء الشعب العراقي على حساب السواد الأعظم منه ، وهذا الأمر قد يخلق حالة عامة من الغضب قد تتصاعد مع الأيام ، إذا لم يتم معالجتها بالشكل الصحيح ، ولا يجوز اطلاقًا أن نسبة قليلة جدا من أبناء العراق تتنعم بخير العراق والغالبية العظمى لا تحصد إلا الشقاء والبؤس.
وبيّن البيان “ان استمرار الصراع على المغانم والمكاسب وإثارة المشاكل الامنية والعشائرية والطائفية هنا او هناك لأغراض معينة ، وعدم الإسراع في معالجة مشاكل المناطق المتضررة بالحرب على الإرهاب تمنح فلول داعش فرصة مناسبة للقيام ببعض الاعتداءات المخلة بالأمن والاستقرار ، ففلول داعش ربما يجدون حواضن لهم لدى بعض الناقمين والمتذمرين ، الأمر الذي سيزداد تعقيداتٍ جديدة على تعقيدات المشهد العراقي .
ان تطبيع الاوضاع في تلك المناطق ، وتوفير الأمن فيها على أسس مهنية تراعي حرمة المواطن وتمنحه فرصة العيش بعزّ وكرامة ، وتمنع من التعدي والتجاوز على حقوقه القانونية ، يتسم بالضرورة القصوى ، وبخلاف ذلك ، تزداد مخاطر العودة بالبلد الى الظروف التي لا تنسى آلامها ومآسيها”.
وهنا نجد دعوة صريحة من البيان يطلب فيها من القائمين على الحكم في العراق الالتفات إلى المناطق التي تضررت جراء الحرب على تنظيم داعش الارهابي ، من توفير الحياة الكريمة والأمن لهم ، محذراً – أي البيان – من تجاهل تلك المناطق ، خشية من أن تتولد حالة من الاستياء العام بين أبنائها ، ويكون من بين نتائجها استنساخ تجربة داعش ، مستغلين حالة انشغال القوى السياسة في صراعاتها حول تقاسم الغنائم.
وقال البيان “ان على الجهات المعنية بالملف الأمني أن تكون حذرة جداً مما يمكن أن يحدث نتيجة للعوامل المشار إليها آنفاً ، وأن تتعامل بمهنية تامة مع هذا الملف المهم والحساس ، وتولي عناية خاصة للجهد الاستخباري لإحباط مخططات الارهابيين قبيل تنفيذها ، وتوفر مراقبة دقيقة للمناطق التي يمكن أن تكون محطاتٍ لتحركاتهم ، ولا تسمح بأي إهمال أو تقصير في هذا المجال”.
وهنا يطالب البيان الأجهزة الأمنية بأن تكون يقظة ، وأن تأخذ بعين الاعتبار التقارير الاستخبارية للتصدي لأي عمل ارهابي يمس أمن واستقرار العراق ، فالعراق يجب أن يمضي إلى المستقبل ، ويكفي التأخر الذي أصابه نتيجة لظروف عديدة ومنها ظهور تنظيم داعش الارهابي والذي – بحمد لله – تم دحره ، فالأمن والاستقرار المدخل الطبيعي لعراق المستقبل ، فالتقدم بمختلف اشكاله والأمن وجهان لعملة واحدة.
واختتم البيان بالقول “تحية إجلال وإكبار للشهداء العظام ، وللأحبة في أسرهم وعوائلهم ، وللأعزاء من المقاتلين الجرحى والمعاقين ، وللرجال الابطال في مختلف صنوف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الذين يسهرون على أمن الوطن واستقراره وحماية المواطنين والمقيمين ، نسأل الله تعالى أن يحفظهم ويسدد خطاهم ، ويأخذ بيد الجميع الى ما فيه خير البلاد والعباد ، إنه أرحم الراحمين.
بتحية الشهداء والمقاتلين والجرحى اختتم البيان ، فلولا هؤلاء وتضحياتهم العظيمة لاستمر تنظيم داعش يعيث في أرض العراق فسادًا ، كما قدم البيان التحية لرجال الوطن في مختلف صنوف الأجهزة الأمنية ، العيون الساهرة للحفاظ على أمن العراق وسيادته.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية