الشرق الأوسط كان ولا يزال أرض صراعات تتراكم بلا حلول. الصراع على الأرض يمتزج بالصراع على السماء. تضييق التاريخ يرافق توسيع الجغرافيا. حروب المياه المؤجلة تتقدم عليها حروب النفط والغاز. حرب العصابات البحرية ضد ناقلات النفط في خليج عدن بعد شاطئ الفجيرة يدور في ظلها صراع أكبر على الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط ضمن التنافس على تزويد أوروبا بالغاز والسعي الأميركي إلى التضييق على خطوط الغاز الروسية. وكل شيء هو في البداية والنهاية صراع على المال والسلطة.
وما تتركز عليه الأضواء حالياً هو الصراع الأميركي – الإيراني، الذي يتعدد اللاعبون الإقليميون والدوليون فيه، وإن كانت إدارته المباشرة لواشنطن وطهران. وما يحدث، حتى إشعار آخر، هو عمليات ساخنة تدار بحسابات باردة. إيران تمارس سياسة: “اضرب واستنكر”. وأميركا تمارس سياسة “اتهم واستنكف”. لكن من الصعب الحفاظ على مستوى مضبوط في اللعب على حافة الهاوية. فلا إيران تستطيع الاستمرار في إنكار المسؤولية عما تقوم به مباشرة وبالواسطة لأنها محكومة بالرد على حرب اقتصادية أميركية كبيرة تشنها إدارة الرئيس دونالد ترمب بعد خروجه من الاتفاق النووي. ولا أميركا تستطيع الامتناع عن الرد على أي عملية أمنية إيرانية تستهدفها مباشرةً وتؤدي إلى سقوط ضحايا أو تؤذي حلفاءها بعملية تحمل توقيعاً واضحاً. وهما معاً تعرفان أن من الصعب السيطرة على التصعيد، ولو كان محسوباً.
معارضو ترمب في أميركا كثيرون. وأبسط ما يقال في الكونغرس والإعلام هو أن ترمب يستحق أن يهزأ به المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بالقول لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الحامل رسالة منه إنه “لا يستحق تبادل الرسائل، وليس لدي أي رد له، الآن أو في المستقبل”. فالرئيس الأميركي خرج من الاتفاق النووي وبدأ إستراتيجية “الضغط الأقصى” على إيران لدفعها إلى التفاوض على اتفاق جديد من دون أن تكون لديه إستراتيجية شاملة. مجرد تحديد أهداف بلا ضمان لتحقيقها، ولا خيارات بديلة عند الرفض الإيراني. ولا أحد يذهب إلى ما يضطره إلى خوض حرب يقول سلفاً إنه لا يريدها. فما العمل إذا أثبتت طهران بعملياتها أن ترمب “نمر تويتري” على حد تعبير مارك دوبويتز من “مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات”؟
كريم سادجادبور، وهو خبير في شؤون إيران في “كارنيغي للسلام”، يضع حسابات القائد الأعلى الإيراني ضمن عيار دقيق: “إذا رد بعدم كفاية، فإنه يغامر بفقدان وجهه. وإذا رد بإفراط، فإنه يغامر بفقدان رأسه”. وطهران تتصرف على أساس أن لديها أوراقاً عدة قبل الوصول إلى مواجهة حرب كبيرة. وبين الأوراق ممارسة ما تسميه “الصبر الإستراتيجي” إلى أن تفقد أميركا الصبر كالعادة أو إلى ما بعد الانتخابات الأميركية في العام 2020. والمفارقة أن الذين كانوا يراهنون على الجنرالات ماكماستر وكيلي وماتيس لضبط تهور ترمب، يراهنون اليوم على ترمب الرافض للتورط العسكري الواسع في الخارج لضبط تهور بولتون وبومبيو.
والواقع أن الرئيس باراك أوباما هو الذي قاد العالم إلى ورطة الاتفاق النووي الناقص من دون ضوابط للسلوك الإيراني. وطهران مارست الابتزاز، ولا تزال تمارسه حالياً مع أوروبا، عبر المطالبة بامتيازات وضمانات مقابل التخلي عن شيء لا تملكه وتقول إنها لا تريد امتلاكه، لا بل يقول خامنئي إنه “محرّم شرعاً”، أي السلاح النووي. والسؤال الحقيقي هو، ما الخطر الإيراني الأكبر على المنطقة والعالم: امتلاك إيران سلاحاً نووياً أم تدخلها في الشؤون الداخلية للعالم العربي وتشكيل ميليشيات مذهبية وخلايا نائمة هنا وفي أوروبا وأميركا وخلخلة النسيج الاجتماعي على طريق مشروع إمبراطوري؟ وأين تستخدم إيران القنابل النووية؟ حتى حيازة السلاح النووي لضمان حماية النظام واستمراريته على طريقة كوريا الشمالية، فإنها تصطدم بالفارق بين بيونغ يانغ التي لا طموح لها سوى الاستقرار تحت حكم أسرة كيم ايل سونغ وبين طهران التي تريد التوسع في المنطقة، لا مجرد حماية النظام.
وهذا هو جوهر اللعبة، سواء ثبت ترمب على موقفه أم حظي بصفقة ما. فالمتضرر الأول من المشروع الإيراني هو العالم العربي، الذي صار مسرحاً للتنافس الإقليمي بين إيران وتركيا وإسرائيل، والتنافس الدولي بين أميركا وروسيا والصين. وإذا كان من المهم أن تصبح المنطقة كلها، بما فيها إسرائيل، خالية من الأسلحة النووية، فإن الملحّ والأهم هو منع إيران من تطوير الصواريخ الباليستية، وكف يدها عن “زعزعة الاستقرار” في المنطقة، وبالتالي إخراج نفوذها من العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة وأماكن أخرى. وهذا هو القاسم المشترك بين العرب وأميركا، وبين أميركا وأوروبا المتمسكة بالاتفاق النووي. وبعض هذا ما تتصور أوساط إقليمية ودولية أنه من أهداف روسيا والصين.
واللعبة معقدة بأكثر مما هي على حافة الهاوية.
اندبندت