ناخبو مدينة إسطنبول على موعد مع انتخابات الإعادة لاختيار رئيس بلديتهم، يوم الأحد 23 حزيران/يونيو الجاري. ويتنافس على هذا المقعد مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم، وائتلاف الجمهور الذي يجمعه مع حزب الحركة القومية، رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم، ومرشح حزب الشعب الجمهوري، وائتلاف الشعب الذي يجمعه مع الحزب الخيّر، أكرم إمام أوغلو، وقد كان، في الدورة السابقة رئيساً لإحدى البلديات الفرعية لمدينة إسطنبول.
كان إمام أوغلو، قبيل الانتخابات الأولى التي أُجريت في 31 آذار/مارس الماضي، شخصاً مغموراً واجه أحد أركان الحزب الحاكم، بل الرجل الثاني في الحكم، وله تاريخ طويل في السلطة كوزير ورئيس وزراء ورئيس مجلس النواب على التوالي. لكنه أصبح شخصية معروفة ومحبوبة بعد أدائه المميز في الحملة الانتخابية، وفوزه على منافسه يلدرم ولو بفارق ضئيل من الأصوات. أما بعد عزله عن رئاسة البلدية، بقرار مثير للجدل اتخذته الهيئة العليا للانتخابات، بناء على اعتراض قدمه حزب العدالة والتنمية على النتائج، فقد أصبح في وضعية المظلوم الذي هُضم حقه بغير حق. وتقبل قرار الهيئة، برغم ذلك، وعاد يجوب البلاد طلباً لأصوات الناخبين، وتحول إلى شخصية سياسية ذات شعبية واسعة تجاوزت شعبية حزبه الجمهوري بكثير، لتشمل قطاعات اجتماعية أخرى من خارج القاعدة الموالية للحزب الحاكم. بل هناك من باتوا ينظرون إليه، منذ الآن، باعتباره منافساً محتملاً لاردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة في العام 2023.
اللافت في الأمر هو أن السلطة والمعارضة باتتا تنظران إلى انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وكأن نتائجها ستحدد مصير الحكم والبلد. ويعود ذلك، بصورة رئيسية إلى تعامل السلطة مع هذه الانتخابات المحلية، سواء بوصفها بـ«المصيرية» أثناء الحملة الأولى، أو باعتراضها على النتيجة في مدينة إسطنبول والضغط الذي مارسته على الهيئة العليا وأدى إلى قرار الإعادة. أما المعارضة التي لم تتعامل مع الانتخابات المحلية، أثناء الحملة الأولى، بهذه الصفة، فقد تحول الأمر إلى «معركة من أجل الديمقراطية والعدالة» بعد قرار إعادة انتخابات إسطنبول، أي معركة كسر عظم مع السلطة، وبخاصة بعد استعادتها الأمل بإمكانية إلحاق الهزيمة بتحالف السلطة في صناديق الاقتراع، بعد 17 عاماً من اليأس من التغيير.
أجرى الحزب الحاكم تغييرات مهمة في استراتيجية حملته الانتخابية الجديدة، بالمقارنة مع الحملة الأولى، فاختفت صفة «المصيرية» من التداول، وتجاهلت وسائل الإعلام الموالية اسم مرشح المعارضة لكي لا تمنحه مزيداً من الشهرة، واختفى الرئيس اردوغان من الساحات تاركاً إياها للمرشح يلدرم، بعدما كان الأول يخطب في الجمهور كل يوم تقريباً، وصوره تملأ الأفيشات بجانب صور مرشحه. أما الثاني فقد غاب عن الاجتماعات الجماهيرية، في الحملة الأولى، ليظهر هذه المرة في كل مكان، ليس في إسطنبول وحدها بل كذلك في مختلف مدن الأناضول. واختفت من الخطابات والإعلام الموالي الكلمات النارية ضد الخصوم الذين تمت شيطنتهم في الحملة الأولى.
اللافت في الأمر هو أن السلطة والمعارضة باتتا تنظران إلى انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول وكان نتائجها ستحدد مصير الحكم والبلد
بل إن استراتيجية التهدئة هذه بلغت ذروتها حين وافق يلدرم، وبقرار من حزبه، على خوض مناظرة تلفزيونية مع منافسه، في استعادة لتقليد غاب عن المشهد السياسي التركي منذ 17 عاماً. لكن المناظرة التي استقطبت ملايين المشاهدين الأتراك كانت، برأي غالبية المراقبين، مخيبة للآمال، فلم تسجل اختراقات باهرة لصالح أحد المرشحين، وقد ظهرا في البرنامج بأقل من مستوى أدائهما المعتاد أمام الجمهور. والمرجح أن المناظرة لن تؤثر تأثيراً ذا قيمة على توجهات الناخبين من الجبهتين. ومع ذلك، تم تسجيل نقاط سلبية أكثر على يلدرم، بالمقارنة مع منافسه، منها مقاطعاته الكثيرة أثناء كلام إمام أوغلو، على رغم القواعد المتفق عليها والناظمة للبرنامج، مقابل التزام الثاني بتلك القواعد، ومنها اتهامه لمنافسه بالكذب، بما يخل بأدب الحوار، ومنها «رسوبه» الصريح في امتحان عدد من الأسئلة، فاق عدد مرات رسوب إمام أوغلو.
ومن أبرز متغيرات الحملة الانتخابية الجديدة، توجه المرشحين إلى مدن الأناضول طلباً لأصوات الناخبين. ذلك أن إسطنبول، من الناحية الديموغرافية، هي تركيا مصغرة تضم «جاليات» من كل أنحاء البلاد. فقسم كبير من ناخبي إسطنبول هم من أصول تعود لخارجها، ولا يشكّل الاسطنبوليون «الأصليون» إلا أقلية صغيرة بالمقارنة معهم. وكانت أبرز محطات جولة يلدرم هي مدينة ديار بكر حيث تحدث مع الناس في الشارع ببعض الكلمات الكردية، بل إنه تفوّه بكلمة «كردستان» المحظورة من التداول. كل ذلك لاستمالة ناخبي إسطنبول الكرد الذين كان لهم دور مرجح في فوز إمام أوغلو في الجولة الأولى من الانتخابات. ويقال إن إحجام رئيس حزب الحركة القومية المتحالف مع «العدالة والتنمية» دولت بهجلي عن الظهور أثناء الحملة وإطلاق التصريحات المتشددة كعادته، إنما حصل بنتيجة طلب من الحزب الحاكم من أجل ترطيب الأجواء مع الناخبين الكرد على أمل كسب بعض الأصوات منهم هذه المرة. لا أحد يستطيع المجازفة بتوقع من سيكون الفائز في انتخابات الإعادة. لكن غالبية استطلاعات الرأي التي نشرت إلى الآن تشير إلى تقدم إمام أوغلو على يلدرم بنسب متفاوتة، ولكن عموماً ليس بفارق كبير. أما مدير مؤسسة كوندا المعروفة بموضوعية توقعاتها، فقد توقع «فارقاً ملحوظاً» لمصلحة إمام أوغلو.
التطور الأحدث هو عودة الرئيس اردوغان إلى الظهور في المشهد، مع استعادة مفاجئة للغته الحادة. فقد وجّه إلى إمام أوغلو نقداً لاذعاً، وطالبه بالاعتذار من محافظ مدينة «بولو» شرطاً مسبقاً لتبوء منصب رئيس بلدية إسطنبول في حال فوزه به، على خلفية ما أشيع من شتمه للمحافظ المذكور.
فسر البعض هذا التهديد بأن اردوغان ربما أراد، في اللحظة الأخيرة، أن يدفع بالمترددين من ناخبي حزب العدالة والتنمية إلى المشاركة في التصويت. ذلك أن أحد أسباب خسارة يلدرم في الجولة الأولى كان إحجام قسم من الناخبين التقليديين لحزبي تحالف الجمهور، عن المشاركة في الانتخابات. ويعمل كل من التحالفين المتنافسين على شد أولئك الممتنعين إلى صناديق الاقتراع على أمل تغيير النتيجة لمصلحته.
القدس العربي