مَن يريد الحرب سيجدها ومَن يريد السلم سيجده، وهذه هي حال منطقتنا التي تعيش هذه الأيام في مكان هو بين الحرب والسلم. فبعد فرض عقوبات أمريكية وبعد ان دخلت العقوبات الخاصة بالنفط حيز التنفيذ هذا الشهر، يتوقع صانع القرار الأمريكي ان تقبل إيران بالشروط الأمريكية حول اتفاق نووي جديد. وبطبيعة الحال لدى إسرائيل كل المصلحة بإشعال النيران بينما يعتقد بعض الدول العربية بأن ضربة لإيران ستضعفها ان لم تسهم بسقوط نظامها كما حصل مع النظام العراقي. في ظل أجواء كهذه حضّرت إيران نفسها للحرب، وهي لن تقبل بهذا النمط من الحصار، الحصار بشكله الراهن في حال استمراره ولم يتم تخفيفه سيؤدي لحرب كبرى في منطقة الخليج. وما الضربات الموجهة للناقلات منذ أيام إلا تعبير عن سخونة اللحظة.
العقوبات على إيران عمل متهور، لكن ذلك لا يعني ان إيران محقة في سياساتها، فسياساتها في سوريا ساهمت في دعم نظام ديكتاتوري، وتدخلاتها في الإقليم العربي معروفة، لكن مواجهة السياسات الإيرانية من خلال الحرب أو الضربات العسكرية والعقوبات والعزل سينتج عنه توحيد الشارع الإيراني خلف قيادته كما وأنه يدفع إيران لتوتير الأجواء لمدى يصعب تقديره والتعامل معه.
لقد استثمرت إيران بالقوة العسكرية الحرب العراقية ـ الإيرانية 1980 ـ 1988 ومنذ غزو صدام للكويت عام 1990، بل ومنذ انتشار القواعد الأمريكية في الخليج عام 1991 ومنذ إسقاط النظام العراقي بواسطة الجيش الأمريكي في 2003. ويصح القول في جانب بأن سيطرة الولايات المتحدة وسطوتها في منطقة الخليج، ومقدرتها على إسقاط أنظمة وشن حروب كل ذلك دفع إيران لاختراق العالم العربي وللاستثمار بالقوة العسكرية والناعمة في الوقت نفسه. ذات الأمر سيدفع مع الوقت تركيا للاستثمار بقوتها العسكرية وقوتها الناعمة. وما الأزمة الراهنة حول صواريخ س 400 الروسية المقرر بيعها لتركيا إلا تعبير عن عمق أزمة النفوذ بين أمريكا المتراجعة والتي تسعى لإدامة نفوذها وبين دول صاعدة كتركيا وإيران.
إن مطالب الإدارة الأمريكية تجاه إيران مرتبطة بالتفاوض على اتفاق نووي جديد يلبي المصالح الإسرائيلية، وقد اشترط الرئيس ترامب إدخال الصواريخ الإيرانية الباليستية التي تصل إلى إسرائيل ضمن الاتفاق القادم. ألادارة الأمريكية ملتزمة بإبقاء اسرائيل متفوقة على كل العرب وعلى تركيا وإيران، إنها تسعى لإبقاء ميزان القوى في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل.
لقد صعّد ترامب من الحملة الموجهة ضد إيران، وذلك بالرغم من معرفته بأنه لا يستطيع لأسباب إقتصادية وإنتخابية التورط بحرب مفتوحة جديدة في المنطقة. ففي الحد الأقصى بإمكان الولايات المتحدة توجيه ضربة عسكرية صغيره لإيران، لكن ذلك لن يغيّر من الوضع شيئا، وفي الوقت نفسه ليس واضحاً كيف سترد إيران على ضربة جوية أمريكية، فأي رد إيراني قد يؤدي لحرب شاملة.
مطالب الإدارة الأمريكية تجاه إيران مرتبطة بالتفاوض على اتفاق نووي جديد يلبي المصالح الإسرائيلية
ويسهم في تقييد القدرات العسكرية الأمريكية ان الولايات المتحدة خسرت في الحروب السابقة عدة تريليونات، بل فقدت الولايات المتحدة في الوقت نفسه القدرة على تعويض هذه الخسائر المالية. لهذا فالتصريحات التي أدلى بها ترامب عن ضرورة أن يدفع الخليج للولايات المتحدة وإلا فقد الحماية فيها الكثير من الابتزاز. كما وتثير هذه التصريحات الكثير من الأسئلة عن مدى انكشاف الخليج أمام القوى الإقليمية والدولية. لكن هذه التصريحات تؤكد بأن الولايات المتحدة في مأزق.
يقع كل هذا بينما المشروع الصيني يزداد انتشاراً في العالم، الصين تتحول لدولة كبرى في الطريق لتجاوز الولايات المتحدة. ويؤكد تاريخ الصين الحديث بأنها لا تنوي التوسع والتدخل في شؤون الدول الأخرى ولا تنوي قلب انظمة حكم، وأنها لن تكون دولة استعمارية. لقد دخلت الصين بحرب واحدة مع فيتنام في الخمسين سنة الماضية، أما الولايات المتحدة فدخلت بعشرات الحروب والنزاعات في الخمسين عاماً الماضية. الصين ترفض العسكرة والتدخل أما الولايات المتحدة فجوهر سياساتها الخارجية مرتبط بالتدخل والهيمنة. وبينما تتصارع أمريكا مع إيران ومع وداعش وأفغانستان ومع تركيا لا تتصارع الصين عسكريا مع أحد كما وتجهز نفسها لأن تصبح أكبر اقتصاد في العالم.
أخطر ما يواجه أمريكا في المرحلة القادمة أنها ما زالت ترى العالم عير عدسات الحرب الباردة، وما زالت أمريكا لم تستوعب أن العالم تغيّر. إن موقف هذه الإدارة وموقف الرئيس ترامب من إسرائيل ومن قضية القدس وحقوق الشعب الفلسطيني بل ومن الجولان المحتل جعل من الإدارة الراهنة الأكثر سلبية وخطورة على العالم الاسلامي والعربي. ما لا ينتبه اليه أنصار الاستعانة بالولايات المتحدة لتصفية الحسابات الإقليمية أن الولايات المتحدة في انحدار، وأن الغرب أيضاً يعيش حالة إنحدار نسبي وأن توازنات جديدة في طور التشكيل على الصعيد الكوني..
أزمة الدولة الكبرى تتلخص في أنها لم تعد سيدة العالم، ولم تعد الاقتصاد الوحيد في العالم، الأمريكيون 4 في المئة من سكان الارض بينما الاقتصاد الثاني في العالم والذي سيصبح الاول هو الاقتصاد الصيني، سكان الصين 20 في المئة من سكان الارض، وقد وصل اقتصاد الصين لنسبة 20 في المئة من الاقتصاد العالمي بعدما كان لا يتعدى 4 في المئة في ثمانينات القرن العشرين.
ستتفوق الصين على الولايات المتحدة وتزيحها عن الصدارة الاقتصادية في العام 2020 أما الهند فستتفوق على الولايات المتحدة مع العام 2030. صعود الهند والصين وصعود روسيا يحد من الدور الأمريكي ويقلصه، لكن الموضوع أعقد من ذلك لأن الولايات المتحدة غير قادرة على رؤية التغير في العالم، فهي تعاني من سوء التقدير ذاته الذي أحاط بالسياسات البريطانية والفرنسية بعد تراجع قوتهما ونفوذهما الدوليين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد تحولت إيران إلى دولة مواجهة، وتحولت إيران لعقبة أمام المشروع الأمريكي الجديد: صفقة القرن. المرحلة حبلى بالأحداث والمفاجآت.
القدس العربي