بعد مرور أكثر من أربع سنوات على الانتفاضات العربية عام 2011، يبدو أنّ الاعتبارات الجيوسياسية للدول الكبرى داخل وخارج المنطقة بقيت إلى حد كبير داخل المعايير المألوفة للأمن والاستقرار والمصالح الاقتصادية، كنقيض لمعايير الإصلاح والديمقراطية. وظلت الاستراتيجيات التي اتبعتها بعض الدول في سعيها وراء تلك الأهداف الأمنية والاقتصادية ثابتة، كما هو الحال في حالات فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، والصين. لكنّ دولًا أخرى، مثل تركيا وروسيا، غيّرت بعض أساليبها في أعقاب الانتفاضات بهدف زيادة نفوذها الجيوسياسي، ليس فقط في المنطقة ولكن أيضًا في مواجهة الغرب، كما هو الحال مع روسيا.
ومع ذلك، لم تكن نتائج الاستراتيجيات طويلة الأمد وكذلك التكتيكات الجديدة إيجابية في معظمها، لأنّ التركيز على الأمن والفوائد الاقتصادية على حساب الإصلاح ساهم في دعم الأنظمة الاستبدادية، وللمفارقة، في زيادة عدم الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفي حين أن هذا قد يكون مفيدًا لمصالح بعض الدول على المدى القصير، إلّا أنّ الاستبداد وعدم الاستقرار سيؤديان في النهاية إلى نتائج عكسية.
ندوبٌ من الماضي
السياسات التي تهدف إلى خدمة مصلحة الدولة وينتهي بها الحال إلى نتائج عكسية تكون في بعض الأحيان مظهر من مظاهر السلوك الجيوسياسي المطلع على التجارب السابقة.
في مثل هذه الحالات، تضلل التجارب الماضية، لا سيما أخطاء الماضي، السياسات الحالية. وقد كان هذا هو الحال مع نهج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الصراع السوري؛ حيث تأثر كلا البلدين من خلال التدخلات العسكرية في العراق وليبيا، واستخدما تلك الحالات لتبرير نهجهما الفاتر تجاه الصراع السوري، خاصة في مسألة تسليح المعارضة السوري. لذلك؛ يمكن تفهم حذر كلا البلدين تجاه الأزمة السورية. ولكن هذا لم ينبع من تفكير أساسي في سبب فشل تلك التدخلات العسكرية السابقة في تحقيق التحولات الديمقراطية الحقيقية في تلك البلدان، ولم يستند إلى الاهتمام الكافي بالظروف المتباينة في الحالات الثلاث في العراق وليبيا وسوريا.
يتعيّن على صنّاع القرار عدم استخدام نفس النهج في بلدان مختلفة في الشرق الأوسط دون الالتفات إلى الخصوصيات المحلية. لقد كان الخطأ الأساسي في أنّ التدخلات في العراق وليبيا حدثت دون خطة طويلة الأمد لتحقيق الاستقرار في البلدان بعد تغيير النظام. يتطلب الانتقال إلى الديمقراطية بيئة مستقرة قبل بدء العمليات الديمقراطية نفسها، ولكنّ هذا الاستقرار لا يجب أن يكون على حساب الحريات الفردية. في حالات البلدان التي شهدت تحولات دامية، يجب على واضعي السياسات السعي لتعزيز الخدمات الأمنية، وجعلها خاضعة للمساءلة حتى لا تتراجع تلك الدول إلى دوامة القمع والتمرد.
تجاهل الحوكمة
ثمة خطأ آخر في كلتا الحالتين وهو أنّ الجهات الفاعلة الخارجية لا تولي اهتمامًا كافيًا بدور الحُكم الرشيد في منع المظالم الاجتماعية والسياسية؛ حيث تنظر هذه الجهات في المقام الأول إلى الحكومات الجديدة في العراق وليبيا من منظور فائدتهم كحلفاء، بدلًا من الآثار طويلة الأجل لسلوك الحكومات تجاه مواطنيها. ونتيجة لذلك، تجاهلت هذه الجهات الفاعلة التجاوزات الديمقراطية من حلفائها.
وعلى الرغم من أنّ هذا قد يصب في المصلحة الجيوسياسية للغرب لدعم الأنظمة الصديقة على المدى القصير رغم سلوك تلك الأنظمة “الرجعي”، إلّا أنّه يجب على واضعي السياسات التفكير في الآثار المترتبة على الافتقار إلى الحكم الرشيد على المدى الطويل؛ لأنّ هذا الغياب يزرع بذور عدم الاستقرار الذي يخرج من مظالم المواطنين.
وحتى الآن، كما شهدنا في مصر والعديد من الأنظمة الملكية في الخليج والمغرب العربي، بلدان مختلفة مثل الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، استمرت في دعم الأنظمة الاستبدادية في أجل خدمة مصالحها الاقتصادية مثل اتفاقات التجارة والطاقة. وفي هذا الصدد، انتهى الحال بالدول الغربية الديمقراطية وهي تتبع نفس النهج الدول غير الديمقراطية، لأنّ كلا منهما يسعى لتحقيق الاستقرار في الوضع السلطوي القائم في الشرق الأوسط من أجل المنفعة الاقتصادية.
وقد تمادت الولايات المتحدة لتتخلي عن التركيز على الإصلاح الاقتصادي والسياسي لصالح المساعدة الإنمائية ذات الطابع التقني التي لا تتطلب الدول التي تدعمها لتحسين ممارساتها في الحُكم أو الأنظمة أو المؤسسات. هذا التركيز على قضايا التطور التقني بدلًا من الإصلاح السياسي المنهجي يسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بنفوذها دون الإخلال بالوضع الراهن للبلدان التي تقدم لها الدعم، وهي حالة اشتباك “منخفضة التكلفة”.
الآثار السلبية للاستقرار
الدافع الرئيس وراء استمرار الوضع الراهن هو الحفاظ على المصالح الأمنية، ولكن يمكن أن يأتي هذا النهج بنتائج عكسية؛ ففي مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ساعد هذا النهج على تسهيل عودة وضع ما قبل الثورة ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنّ تلك الدول نظرت إلى هذا النهج على أنّه الضامن للأمن الوطني. ولكن حملات القمع القاسية من نظام السيسي ضد الإخوان المسلمين وجماعات المعارضة الأخرى ساهمت في صعود النشاط الجهادي في البلاد. كما تدعم إسرائيل السيسي على أساس أنه يعمل على استقرار مصر من خلال حملته القمعية ضد النشاط الجهادي في سيناء.
وينطبق سيناريو مشابه على حالة دعم روسيا لنظام بشار الأسد في سوريا. خوف روسيا من الجماعات الجهادية السُنية التي ظهرت في سوريا، كان أحد الأسباب التي دفعتها لدعم نظام الأسد، ولكنّ هذا سبب لها صداعًا أكبر نظرًا لتورط لواء الشيشان في الصراع إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية. هدف موسكو هو الحفاظ على الوضع الراهن في سوريا، وقد ساهم ذلك في خلق عدم الاستقرار على نطاق أوسع.
حالات أخرى في المنطقة، من تجاهل الولايات المتحدة لانتهاكات حقوق الإنسان في البحرين، إلى استمرار الدعم العسكري من فرنسا للأنظمة الاستبدادية في شمال أفريقيا والخليج، تسلط الضوء على النهج ضيق الأفق للتعامل مع قضايا الأمن القومي. وتجاهل حقوق الإنسان في السعي لتحقيق الاستقرار قد ينجح على المدى القصير، ولكنه يزرع بذور المظالم العميقة التي سوف تطفو على السطح في نهاية المطاف وتهدد الأمن على المدى الطويل.
تحديد الأولويات المستمر لمصالح الأمن قصيرة الأمد على حساب الإصلاح السياسي الهيكلي يوضح أنّ الدروس المستفادة من الثورات العربية لم تُستوعب بشكل كامل. لقد كانت الانتفاضات العربية نفسها نتاج عقود من القمع في المنطقة، ولذلك، حتى إذا أظهرت الأنظمة الاستبدادية أنها مستقرة، لكنها في الحقيقة تخفي عدم استقرار يغلي تحت السطح وسينفجر في نهاية المطاف. يجب على واضعي السياسات في الغرب وأماكن أخرى النظر في الآثار الطويلة الأجل للسياسات الاقتصادية والأمنية، وذلك لأنّ تجاهل حقوق الإنسان وزرع بذور المظالم يعني أن تلك السياسات من المرجح أن تعمل في نهاية المطاف ضد مصالحهم الجيوسياسية. وعلى النقيض من ذلك، تخفف إجراءات الحُكم الرشيدة من عدم الاستقرار الذي غالبًا ما يصاحبه تغيير سياسي.
استمرار حالة عدم الاستقرار
سعت الجهات الفاعلة الإقليمية وغير الغربية إلى بعض السياسات الموجهة نحو تعزيز نفوذهم والتي ساعدت على استمرار حالة عدم الاستقرار كنقيض للاستقرار، وكانت النتائج مدمرة على حد سواء. دعم قطر والمملكة العربية السعودية للجماعات الجهادية في سوريا وليبيا كان وسيلة لزرع عملاء محليين لزيادة نفوذهما، ولكن هذا أجج التوترات الإقليمية في الخليج وساهم في تفاقم النزاعات في البلدين. كما أنّ تجاهل تركيا للجهاديين الذين يعبرون حدودها إلى سوريا -بسبب الفائدة المتوقعة من هؤلاء الجهاديين في هدفها لإسقاط نظام الأسد- يخاطر بعلاقة أنقرة مع الغرب، ويعمل كذلك على تفاقم الصراع السوري.
استراتيجية إيران لإضعاف الدول التي تحاول التأثير عليها، ودعم الميليشيات الشيعية في تلك الدول كوسيلة للضغط على الدول المركزية (كما كان الحال في لبنان والعراق وسوريا، وبدرجة أقل في اليمن)، زادت من التوترات الطائفية في تلك البلدان. وقد استغلت جماعات مثل داعش هذه التوترات لحشد دعم شعبي، مما زاد من نفوذ تلك الجماعات.
ما كان في السابق عدوًا مفيدًا لإيران تطور الآن ليصبح تهديدًا خطيرًا على حدودها. حتى مصر استفادت من الحرب ضد داعش، لأنها ساعدت على استئناف المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة للبلاد في مارس عام 2015، وهي ليست سوى مكاسب قصيرة الأمد، نظرًا لأنّ تنظيم داعش وسّع نطاق أنشطته في المنطقة، ومصر ليست استثناء.
في السعي نحو تحقيق مصالح جيوسياسية، تدور الدوافع الرئيسة للبلدان في منطقة الشرق الأوسط وخارجها حول زيادة النفوذ السياسي والحفاظ على المزايا الاقتصادية. وللأسف، فإن أطر السياسات القديمة التي تركز على الأمن والاستقرار ما زالت مؤثرة في طريقة اختيار البلدان للاقتراب من منطقة الشرق الأوسط. ودون الانتباه إلى الآثار المستقبلية الناجمة عن التركيز على الأمن دون ترسيخ الديمقراطية، فإنّ المنطقة معرضة لخطر البقاء في حالة صراع دائم.
وبدلًا من ذلك، يحتاج صنّاع السياسات الذين يسعون لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط إلى إعادة التفكير في استراتيجياتهم الجيوسياسية لجعل دعم الديمقراطية جزءًا من السياسات قصيرة الأمد وطويلة الأمد على حد سواء، وهذا لا يعني التخلي عن برامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي، ودعم مؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تعقد مؤسسات الدولة للمساءلة؛ بل يعني أن نراعي التغيرات التي يمر بها أي بلد في تصميم وتنفيذ السياسات الخارجية واحتياجات مختلف البلدان.
في حالات الدول التي تمر بتحولات عنيفة، ينبغي أن يكون الاستقرار أولوية قصوى قبل البدء في العملية الديمقراطية، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون على حساب حقوق الإنسان. في النهاية، على الرغم أنه من الصعب تحقيق التوازن بين المصالح والقيم، لكنّه ليس مستحيلًا ويجب أن تكون نبراسًا لصانعي السياسات في منطقة الشرق الأوسط وخارجها.
التقرير