في كل أنحاء الأرض يطبّق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مذهباً «تجارياً» في السياسة، فيخضع الصين لعقوبات اقتصادية فترد بكين بعقوبات مشابهة، وفي فلسطين يسحب مساهمة بلاده في دعم حل الدولتين ويكلّف حلفاءه العرب بشراء القضية من الفلسطينيين مسمّياً ذلك «صفقة القرن»، وفي إيران يضيّق الخناق الاقتصادي متوقعاً منها الاستسلام، وفي كل ذلك يريد ترامب أن يعفي نفسه من قوانين الجاذبية والفيزياء والسياسة، في أن لكل فعل رد فعل.
وإذا كان هناك ميزان لرصد الاهتزازات بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية فمن المؤكد أن هذا الميزان قد سجّل ارتفاعاً غير مسبوق مع إسقاط طهران للطائرة الأمريكية المسيّرة «آركيو4 غلوبال هوك» الخميس الماضي، وعلى عكس التوقعات فإن الرئيس الأمريكي، كما قال أمس، أوقف هجوماً انتقامياً ضد طهران قبل 10 دقائق من حدوثه.
في المقابل، وبطريقة مماثلة تظهر أن إيران تريد إعلان إمساكها بخيوط اللعبة وإدراكها لحدودها القصوى، قالت طهران إنها اكتفت بإسقاط الطائرة المسيّرة التي انتهكت مجالها الجوي وكان باستطاعتها أن تسقط طائرة أخرى مرافقة كان فيها 35 جندياً أمريكياً، وبرغم إعلان الجمهورية الإسلامية عدم مسؤوليتها عن الهجوم الأخير على الناقلات، فإن الفيديو الملتقط لعدد من جنود البحرية الإيرانية يفكّكون لغماً عن جسم إحدى الناقلتين، إذا صحّ، قد يفهم على أنهم كانوا جاهزين لسيناريو إغراق تلك الناقلة، وأن هذا الأمر يمكن أن يتكرر.
إيقاف ترامب لهجومه المحدود يعني أيضاً أن الإيرانيين كانوا جاهزين لهذا الأمر ولا بد أن لديهم خططاً للتصعيد ومفاجأة أمريكا، سواء في مضيق هرمز والخليج العربي، أو في مناطق أخرى غير متوقعة، كالجنوب اللبناني مثلاً.
استمرار الحوثيين بمهاجمة المطارات والقواعد العسكرية السعودية يظهر أيضاً أن إيران لا تستخدم إلا ورقتين فحسب من الأوراق العديدة التي تمتلكها ولم تقم باستخدامها بعد.
من الواضح أن قادة الجمهورية الإسلامية لا يريدون التفريط بأي من تلك الأوراق التي يمتلكونها، بما فيها نفوذهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فقد أعطى هذا النفوذ الإيراني المتسع طهران قدرات كبيرة على التهديد والمناورة لا يستهان بها، ولعلهم قرأوا شخصية الرئيس الأمريكي قراءة صحيحة لا تتناسب مع اعتقادات أنصاره الخلّص على أنه «رجل العضلات»، فهو بالأحرى رجل «الصفقات» التي تسجّل أرباحاً من دون صرف تكاليف، وإذا كانت هذه الصفقات ممكنة مع السعودية (وهو أمر تفاخر به ترامب على الملأ)، فإنها لا يمكن الحصول عليها مع القادة الإيرانيين.
الطرفان بالتأكيد، لا يريدان الحرب، لكنّ ذلك لا يمنع من القول إن أسباب هذه الحرب موجودة، وهي تشبه لغماً موقوتاً لا يعلم أحد متى سينفجر، أو ماذا يخفي هذا الانفجار للمنطقة العربية من تغيّرات مجهولة قد لا تطابق حسابات الدعاة للحرب.
القدس العربي