معمر فيصل خولي*
لم تكن الانتخابات التركية بشكلٍ عام ، والبلدية “المحلية” بشكلٍ خاص قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى حكم تركيا في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002م ، تلقى اهتمامًا كبيرًا من قبل غالبية الدول العربية والأوروبية والعالمية ، كون النظام السياسي في تركيا قبل ذلك التاريخ ، كان خاضعًا لهيمنة المؤسسة العسكرية التركية ، وبالتالي تكاد تكون نتائج تلك الانتخابات محسومة مسبقٌا.
لكن هذا الأمر اختلف بعد ذلك التاريخ ، فمن خلال التعديلات الدستورية التي ادخلتها الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية على الدستور التركي ، للحد من صلاحيات المؤسسة العسكرية ، وإلغاء وصايتها على النظام السياسي في تركيا ، أصبح فيها مجتمع سياسي نشط ، وأصبح للاستحقاق الانتخابي قيمة قانونية وسياسية ، كما أصبح للمواطن التركي دور كبير في إحداث الفرق في نتائج ذلك الاستحقاق ، وهذا الأمر بحد ذاته يعد انجازا للديمقراطية التركية الصاعدة.
وما زاد من أهمية الانتخابات في تركيا ، تفاعلات السياسة الخارجية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية مع القضايا العربية والإقليمية والدولية ، فمواقفها من تلك القضايا لم تكن محل ترتيب على الدوام من قبل بعض الدول الإقليمية والدولية ، بل على العكس ، فقد كانت هناك محطات من التوتر والأزمات والتنافس والصراع مع تلك الدول ، لذلك أصبحت الانتخابات التركية “البلدية والنيابية والرئاسية” تشغل بال الدوائر العربية والأوروبية والدولية ، بالإضافة الى اهتمام التحليلات السياسية بها.
وانسجامًا مع قناعة سادت في المجتمع السياسي التركي مفادها “من يحكم اسطنبول يحكم تركيا”. فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري “أكرم إمام أوغلو” بنسبة (54%) في إعادة انتخابات اسطنبول أمام منافسه الرئيسي “بن علي يلدريم” مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي نال (45%) ، وفي دلالةٍ على قبول الحزب الحاكم بهذه النتيجة ، لم يتأخر رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” عن تهنئة إمام أوغلو ، مؤكداً أن “الإرادة الوطنية تجلت مرة أخرى اليوم ، وأتمنى أن تعود نتائج انتخابات بلدية اسطنبول بالخير على المدينة”.كذلك سارع يلدريم إلى تهنئة خصمه الفائز ، متعهداً بمساعدة رئيس البلدية الجديد في كل ما يخدم مصالح المدينة.
فعلى الرغم من حصول حزب العدالة والتنمية على نسبة ما يفوق (51%) من نتائج تلك الانتخابات ، إلا أنها اعتبرت أول “هزيمة” يتعرض لها حزب العدالة والتنمية ، وذلك بعد خسارته لرئاسة بلديتي اسطنبول وأنقرة اللتين تعدان أهم معاقل الحزب التقليدي ، وعدت تلك الخسارة بمثابة مفاجئة سارة لمناوئي الحزب في الداخل والخارج التركي ، إذ ربما تكون مقدمة لمزيد من الخسائر له في الاستحقاقات الانتخابية القادمة ، تبعده عن حكم السلطات الدستورية في تركيا.
لكن لم يدرك البعض بأن قبول الحزب الحاكم الذي يعد مسيطرًا على مفاصل النظام السياسي بشقه الحكومي ، هو انتصار للتجربة الديمقراطية التركية ، أليس بإمكان حزب العدالة أن يزور الانتخابات بما يخدم مرشحيه؟ ومع ذلك لم يفعل ، لأن هدفه الداخليّ تعزيز التجربة التركية ، وخارجيّا نضجها ، وهي رسالة موجهة للجماعة الدولية بشكل عام ، والاتحاد الأوروبي بشكل خاص ، بأن الحزب الحاكم في تركيا يحترم نتائج الانتخابات حتى لو جاءت عكس ما يطمح إليه ، وهذه إحدى أبجديات الحكم الديمقراطي.
أضف إلى ذلك ، ان قبول حزب العدالة والتنمية بهذه النتيجة هي بحد ذاتها فرصة له لكي يراجع سياساته والوقوف على أسباب التراجع ، لمعالجتها استعدادًا للاستحقاقات الانتخابية القادمة ، التي قد يكون أمر حسمها ليس باليسير على الحزب.
هذه الفرصة والمراجعة تعد خدمة يقدمها نظام الحكم الديمقراطي لكل من الأحزاب السياسة لتجديد سياساتها ورؤاها الداخلية والخارجية، وللمواطنين لاختبار مدى صحة اختيارهم لهذا الحزب أو ذاك . في الأخير ، لو أردنا أن نضع عنوان بارز لنتائج الانتخابات البلدية في تركيا لكتبنا “في تركيا الكل رابح”.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية