يكتشف من كان يرصد تطورات المشهد السياسي والانتخابي التركي، قبل ثلاثة أيام من التوجه إلى صناديق إعادة انتخاب رئيس بلدية إسطنبول، حجم التوتر والبلبلة والابتعاد عن أن تكون مجرد عملية انتخابات محلية يجري تكرارها. كان الناخب التركي، مرة أخرى، تحت تأثير أساليب التصعيد والتمسّك بالاصطفاف أكثر مما كان تحت تأثير حملات المرشحين وبرامجهم. ولذلك وصلنا إلى نتيجة أن الناخب في إسطنبول عاقب “تحالف الجمهور” على قرار جرجرته بالقوة إلى الصناديق مرة أخرى، حتى ولو كانت الهيئة العليا للانتخابات هي من قرّر ذلك.
قبل أسبوع من التوجه إلى الانتخابات في إسطنبول، أول من أمس الأحد (23 /6 /2019)، كانت غالبية شركات استطلاعات الرأي تتحدث عن فارق بحدود خمس نقاط في الأصوات، لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو. عشية الأحد، وصل الفارق في أصوات المرشحين إلى تسع نقاط. وهذا يعني أن نحو 4% من المقترعين بدّلوا من رأيهم في اليومين الأخيرين، ردّ فعل على النقلات “الانتحارية” التي نفذها، وبينها تسهيل دخول زعيم حزب
“الناخب في إسطنبول عاقب “تحالف الجمهور” على قرار جرجرته بالقوة إلى الصناديق مرة أخرى” العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، على خط الحملات الانتخابية، ودعوته أنصاراً في حزب الشعوب الديمقراطية إلى الوقوف على الحياد، ثم اعتذار مرشح حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدرم، من حزب السعادة الإسلامي على اتهاماتٍ له بالتنسيق مع من يتآمرون على تركيا، وإعلان الرئيس التركي أردوغان، أن مرشح المعارضة لن يجلس على كرسيّه، حتى ولو فاز، من دون اعتذاره من محافظ مدينة أوردو شمالي تركيا.
فاز مرشح المعارضة التركية، أكرم إمام أوغلو، بفارق 13 ألف صوتاً في انتخابات مارس/ آذار المنصرم، فاعترض حزب العدالة على النتيجة، ونجح في حمل الناخب في إسطنبول مرة أخرى إلى الصناديق. فاز إمام أوغلو بفارق ثمانمائة ألف صوت هذه المرة، فما الذي سيقوله ويفعله حزب العدالة والتنمية؟ كتب صاحب هذه السطور، وقال في مارس/ آذار الماضي، إن الديمقراطية هي التي انتصرت في تركيا على ضوء النتيجة، وإن الصناديق قالت إن رئاسة بلدية إسطنبول بيد المعارضة، والأكثرية في المجلس البلدي للمدينة بيد حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، نتيجة لا غالب ولا مغلوب وتعملان معاً. رفض “العدالة والتنمية” قبول صيغةٍ من هذا النوع، وأصرّ على مواصلة التصعيد والتحدّي. بعد أقل من ثلاثة أشهر، قال الناخب إن إمام أوغلو يبقى على كرسيّ رئاسة البلدية، والمجلس ملزم بالتعاون معه وإعطائه ما يريد، لأن الأرقام الجديدة للنتائج صادمة ومخيفة ورادعة.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مطلع إبريل/ نيسان الماضي، إن اعتراضهم على نتائج انتخابات البلدية في مدينة إسطنبول هو “للدفاع عن الإرادة الوطنية والأصوات التي دعمت حزب العدالة والتنمية”. وقال أكرم إمام أوغلو في الثامن من مايو/ أيار إنه سيقود ثورة من أجل الديمقراطية، بعد إلغاء الهيئة العليا للانتخابات نتائج انتخابات مدينة إسطنبول، فتدخل الناخب الإسطنبولي ليحسم المسألة. ولم يكن هناك من خيار آخر أمام “ائتلاف الجمهور” سوى الفوز، لأن الهزيمة مرة أخرى، خصوصاً إذا ما جاءت بفارق كبير ستربك حسابات وتوازنات سياسية وحزبية داخلية كثيرة، فجاءت النتيجة بعكس ما يشتهي أردوغان ورئيس حزب الحركة القومية التركي، دولت بهشلي.
فشل “تحالف الجمهور” في استرداد بلدية إسطنبول من مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، ولكن وسط هزيمة مؤلمة وموجعة أكثر هذه المرة. خسر رهانه على أوجلان، في محاولة استهداف أصوات حزب الشعوب الديمقراطية، المحسوب على الكرد في تركيا، وتحييدها في
“فشل “تحالف الجمهور” في استرداد بلدية إسطنبول من مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، ولكن وسط هزيمة مؤلمة وموجعة أكثر هذه المرة” انتخابات الإعادة. وهو على الرغم من إعلان زعيم حزب الحركة القومية (اليميني)، دولت بهشلي، تمسّكه بالتحالف مع حزب العدالة، فالأخير بالنسبة لحزب بهشلي يتحمّل مسؤولية تفجير أزمة داخلية في صفوف هذا الحزب، بعدما قرّر بعضهم دعم مرشح المعارضة إمام أوغلو، نتيجة اللجوء للعب ورقة أوجلان بهذا الشكل الاستفزازي. وهو فشل في كسب دعم حزب السعادة الإسلامي المعارض، على الرغم من مناورة الاعتذار الذي قدّمه بن علي يلدرم، ساعاتٍ قبل التوجه إلى الصناديق التي لم تنفع كثيراً، كما يبدو، لأن الانتقادات الحادّة التي وجهت إلى قيادات هذا الحزب، بسبب مواقفها وسياساتها، لن تبدّدها خطوة من هذا النوع. وربما الأهم من ذلك كله، أن الرئيس التركي وفريق عمله لن يكون بمقدورهما، بعد الآن، تجاهل المهمشين والمبعدين والمغبونين في كوادر الحزب وقياداته، وبينهم عبد الله غل وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان.
لم يفشل حزب العدالة فقط في محاولة استرداد إسطنبول، المدينة التي منحته دعمها الكامل منذ عام 1994، بل يعاني اليوم من بروز أرقام ونسب جديدة في الأقضية التابعة للمدينة، تحذّره من مواصلة التصعيد والتعبئة الحزبية والشعبية التي قد تُسقطه بالضربة القاضية في أي انتخابات برلمانية مبكرة.
المطلوب أولاً أن يبتعد الحزب باكراً عن تحليلات الإعلام المحسوب عليه، ومحاولات توريطه أكثر فأكثر في مواقف وقرارات تُبعده عن قواعده التي وقفت إلى جانبه منذ عام 2002. وثانياً أن يسارع في طرح استراتيجية تحرّك جذري جديد، تذكّر بانطلاقته قبل 17 عاماً، وبرغبته في العودة إلى جمع الشرائح الواسعة من التوجهات الفكرية والاجتماعية والسياسية حول قواسم سياسية مشتركة، تعيد إليه ما فقده من ثقلٍ في الداخل والخارج. والمطلوب كذلك تسليم حزب العدالة والتنمية بخسارته المدن التركية الثلاث الكبرى، أنقرة وإسطنبول وإزمير، وأنها بيد خصومه السياسيين للسنوات الخمس المقبلة، وأن لا يحاول لعب ورقة أن الأكثرية في المجالس البلدية هي بيده، وأن الرئيس لن يفعل شيئاً بدون موافقتها ودعمها. وأن يبعد حزب العدالة والتنمية المواطن التركي عن مشهد أن القرار بيده وحده، لأن رسالة إسطنبول أخيراً بالمقارنة مع رسالة 31 مارس/ آذار المنصرم كانت واضحة ومحدّدة عن ضرورة قبولها واحترامها، ولأن الناخب قال إنه ليس لعبة بيد القيادات، تحرّكه وتوجهه كما تشاء، ولأن أولويات تركيا في الداخل والخارج أهم من مواصلة الاصطفافات والشحن
“حزب العدالة والتنمية مطالب بنقد ذاتي، في ما يخص سلوكه وأسلوبه وقراراته في الداخل والخارج” والتحدّي.
المطلوب باختصار هو عملية نقد ذاتي يقوم بها حزب العدالة والتنمية، في ما يخص سلوكه وأسلوبه وقراراته في الداخل والخارج، لكنه من أجل أن يفعل ذلك، لا بد من تغيير كوادر وقياداتٍ كثيرة تتحمل مسؤولية إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، فهل يملك الجرأة والرغبة الحقيقية في أن يفعل ذلك؟ بهشلي حليف أردوغان يدعوه إلى الإسراع في العودة بالبلاد إلى الروزنامة التي تنتظر تركيا في الداخل والخارج. بات القرار يحتاج لموافقة تحالف المعارضة ودعمه أيضاً، وخصوصاً أن رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كيليشدار أوغلو، يتحدث عن مواصلة هدم أحجار الجدار الذي يقف في طريق العودة إلى الحرية والديمقراطية.
حتى ولو تبنّى الجميع في تركيا لغة التهدئة والحوار، فهي مجرد هدنة لن تطول، كما يرى متابعون كثيرون في الداخل والخارج، فخسارة المدن الكبرى لا يمكن تمريرها بهذه السهولة، والاحتمال الأقرب سيبقى دائماً الصناديق مرة أخرى في انتخابات مبكّرة.
العربي الجديد