أُطلق تعبير “سلاح النفط” تاريخياً، وعلى نطاق واسع، على حالة معينة فقط وهي قيام الدول المنتجة للنفط بوقف صادرات النفط إلى دول معينة لإجبارها على تغيير موقفها السياسي تجاه أمر معين، إلا أن دور النفط كسلاح تطوّر مع مرور الزمن مع تعدّد اللاعبين، وانتشار العولمة، وتطور التكنولوجيا.
سلاح النفط في التاريخ
تاريخياً، استخدم المسلمون النفط كسلاح بالمعنى الحرفيّ للسلاح في العصرين الأموي والعباسي، حيث كان هناك قسمٌ في الجيش يسمى “النفّاطات”، وهي فرقة “منجنيق” تحمل معها الصوف والكتان وغيره، بالإضافة إلى النفط الثقيل أو القار. عند حصار مدينة ما، يتم نقع الصوف أو الكتان في النفط، وإشعال النار فيهما ثم رميه خلف الجدران بالمنجنيق. هذا السلاح كان فعالاً جدا ومخيفا لأنه لم يكن هناك وسيلة وقتها لإطفاء النيران.
فتح الأمويون في عهد سليمان بن عبد الملك “جرجان” و”طبرستان” بهذه الطريقة، حيث قال الشاعر يمدح يزيد بن المهلب، والي خراسان:
فحباه الإله بالنصر لما أن رماهم بالنفط والنيران
وفي عهد العباسيين، انهارت أسوار مدينة “هرقلة”، التي تحصن فيها الروم بعد أن رماها جند هارون الرشيد بالكتان المبلل بالنفط. وقد وصف محمد أبي بكر المكّي هذا النصر، فقال:
هوت هرقلة لما أن رأت عجباً حوائماً ترمـي بالنـفط والنـارِ
كأن نيــراننا في جنب قلعتـهم مصبغات على أرسان قصّارِ
إلا أن هذا الاستخدام المباشر للنفط كسلاح توقف فيما بعد لصالح أسلحة أكثر انفجارا وفتكاً، وأصبح النفط هدفا للعمليات العسكرية في الحرب العالمية الثانية، واستمر الأمر كذلك حتى ظهر سلاح النفط التقليدي.
سلاح النفط في الحرب العالمية الثانية
تبين أعلاه أن استخدام النفط كسلاح بدأ باستخدامه كسلاح فعلي. ولكن تطور الأمر في الحرب العالمية الثانية إلى كونه سلاحا بطريقة أخرى: أصبح هو الهدف، بدلا من أن يستخدم في الماضي لإصابة الهدف!
يرى عدد من المؤرخين أن السبب الرئيس للحرب العالمية الثانية هو السيطرة على منابع النفط، حيث حاولت ألمانيا السيطرة على منابع النفط الروسية والرومانية ومنابع شمال أفريقيا، بينما حاولت اليابان السيطرة على منابع النفط في آسيا. كما يرون أن وفرة النفط لدى الحلفاء كانت السبب الأول في الانتصار، لذلك كان النفط سلاحاً مهماً بطرق مختلفة في الحرب العالمية الثانية، إلا أن ما يهمنا في هذا المقال ليس الدور المحوري للنفط في الحرب، وإنما في قيام كل طرف في تدمير حقول ومنشآت ومخازن وناقلات الطرف الآخر. النفط أصبح هدفا مشروعا في القتال، الأمر الذي أدى إلى تدمير عدد هائل من المنشآت النفطية وإغراق عدد كبير من ناقلات النفط في كافة بحار ومحيطات العالم. كما قام طيارو القمقازي اليابانيون، عند قرب نفاد الوقود في طائراتهم وعدم قدرتهم على العودة، بالانقضاض بطائراتهم على ناقلات النفط التابعة للحلفاء، محولين إياها إلى كتلة من نار.
سلاح النفط “التقليدي”
عند الحديث عن “سلاح النفط” في الدوائر الأكاديمية والسياسية فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو المقاطعة النفطية، حيث يقوم البلد المنتج بوقف تصدير النفط إلى بلد معين لإجباره على تغيير موقفه السياسي تجاه البلد المنتج. باختصار، عندنا بلد مستهدِف وبلد مستهدَف. البلد المستهدِف (المنتج) يحاول إجبار البلد المستهدَف (المستهلك) على تغيير موقفه واتخاذ موقف سياسي معين. وهذا ما سنسميه بـ “سلاح النفط التقليدي”.
وارتبط هذا النوع من سلاح النفط بالعرب، حيث فرضت بعض الدول العربية مقاطعة نفطية في عام 1956 بعد العدوان الثلاثي على مصر، وفي عام 1967 على إثر خسارة العرب للحرب واحتلال إسرائيل أراضي عربية إضافية، ثم المقاطعة النفطية المشهورة أثناء حرب رمضان في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، والتي كانت رداً على دعم بعض الدول عسكريّاً لإسرائيل، والمطالبة بعودة إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967.
عادةً ما يقاس مدى نجاح أي مقاطعة بمدى تحقيقها لأهدافها المعلنة. من هذا المنظور، فشلت المقاطعات العربية الثلاث في تحقيق أهدافها المعلنة. وإذا نظرنا على المدى الطويل، فإن المقاطعة في عام 1973 ارتدّت على العرب، حيث نتج عنها تحول الدول المستهلكة عن النفط بشكل عام، وتبني الدول المستهلكة لمشاريع النفط في بحر الشمال وألاسكا، والتي جلبت أكثر من 5 ملايين برميل يوميا للسوق. انخفاض الطلب على النفط مع هذه الزيادة الضخمة أدى إلى انهيار الأسعار في الثمانينيات من القرن الماضي، والذي صاحبه كساد اقتصادي في أكثر اقتصادات الدول العربية وبطالة كبيرة لسنوات عديدة، ارتفعت فيه مديونية الدول النفطية، وتعثرت مشاريعها التنموية، ولم يكن لديها الأموال الكافية للدفاع عن نفسها.
اقرأ المزيد
هل عادت حرب ناقلات النفط إلى الخليج؟
العواقب غير المقصودة من زيادة تأزم الوضع في الخليج
انخفاض أسعار النفط وتغيرات المخزون… توضيح
وتشير الدراسات التي شملت أكثر من 100 عملية مقاطعة اقتصادية على مدى أكثر من 100 سنة إلى خلاصة مفادها أن المقاطعة الاقتصادية مصيرها الفشل لأنها لا تجبر المُقاطع على تغيير موقفه. وهذا ينطبق تماما على المقاطعة النفطية، حيث لم تغيّر الولايات المتحدة موقفها، ولم تُجبر إسرائيل على أي تراجع.
إلا أن انتشار العولمة منذ التسعينيات، وتوسّع التجارة ضمن الصناعات بدلا من بين الصناعات، جعل أثر المقاطعة الاقتصادية، بما في ذلك النفطية، أكبر من ذي قبل، ولكن النتيجة ما زالت نفسها: فشل المقاطعة في أغلب الأحيان في تحقيق أهدافها.
بعبارة أخرى، مع انتشار العولمة تم توسيع أنشطة القطاع المالي الأميركي، وبالتالي أصبح للمقاطعة الاقتصادية أنيابٌ لم تكن موجودة من قبل، فزادت مشاكل الدول المُقاطعة، ولكنها فشلت في إجبار الدول المستهدفة في تغيير مواقفها.
وفي هذا السياق، طبّقت الحكومة الأميركية عقوبات نفطية على عدد كبير من الدول، لدرجة أن الولايات المتحدة هي أكثر دولة في العالم استخدمت سلاح النفط، بما في ذلك العقوبات الأخيرة على فنزويلا وإيران. ولكن بالنظر إلا كل هذه العقوبات نجد أنها فشلت كلها في إجبار الدول المستهدَفة على تغيير موقفها.
وكانت الحكومة الأميركية قد فرضت عقوبات نفطية على كل من إيران وفنزويلا في الشهور الأخيرة، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها، ولا يتوقع أن تجبر هذه العقوبات أياً من الحكومتين على التراجع عن مواقفهما.
سلاح النفط الحديث (غير التقليدي)
سلاح النفط التقليدي تستخدمه دول منتجة للنفط ضد دول مستهلكة لتحقيق أهداف معينة. هذا يعني أن الطرفين معروفان، والهدف معروف. ولكن سلاح النفط الحديث أو غير التقليدي أوسع من ذلك بكثير، حيث يشمل فئات ومجموعات غير حكومية، بأهداف متعددة وغير واضحة. ففي المرحلة الأولى المستهدِف والمستهدَف حكومات دول، بينما في المرحلة الثانية المستهدِف منظمات ومجموعات، وأشخاص، مجهولون أحيانا، يستهدفون الحكومات وأحيانا الشركات. هذا يعني أن سلاح النفط تتطور ليشمل لاعبين جددا من جهة، وتوسع دائرة اللاعبين من جهة أخرى.
ومع التقدم التكنولوجي، تطور سلاح النفط الحديث ليصبح أكثر تعقيداً وأكثر دمارا. لذلك سيتم تقسيم سلاح النفط الحديث إلى قسمين: المرحلة الأولى والمرحلة الثانية.
المرحلة الأولى
تتضمن استخدام مجموعات مختلفة، بعضها إرهابية، لسلاح النفط، حيث يتم مهاجمة المنشآت النفطية والأنابيب بهدف الضغط على الحكومات أو الشركات لتحقيق مطالبهم. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك من العراق وإيران واليمن والسودان وكولومبيا، وحتى ألاسكا في الولايات المتحدة. يقوم هؤلاء اللاعبون الجدد بوقف إمدادات النفط بطريقة أو بأخرى، للضغط على الحكومات أو الشركات لتحقيق مطالبهم. هذا يعني أنه في حالتي سلاح النفط التقليدي والحديث، يتم تخفيض الإمدادات، ولكن كلٌ على طريقته الخاصة.
وفي الوقت الذي يستبعد فيه الخبراء قيام أي من الدول المنتجة باستخدام سلاح النفط بالطريقة التقليدية (الحظر النفطي)، إلا أنه ما يميز المرحلة الثانية هو تكرار استخدام سلاح النفط في شتى أنحاء العالم، حيث لا يخلو أسبوع من خبر هنا أو هناك عن هجوم على منشأة نفطية أو أنبوب أو مصفاة، وأكبر مثال على ذلك الهجوم على ناقلات النفط في الخليج والأنابيب والمصافي في السعودية.
وقد أسهمت العولمة في جعل سلاح النفط في يد هذه المجموعات أكثر فعالية بسبب تعدد الأهداف وتنوع المتأثرين، وزيادة الترابط الدولي بين الصناعات والاقتصادات المختلفة، والقناعة بأن من يسيطر على تدفق النفط في بلد ما يرسم مستقبل البلد ويتحكم فيه.
المرحلة الثانية
انتقل سلاح النفط نقلة نوعية إلى المرحلة الثانية بسبب التطور التكنولوجي، حيث انخفضت التكاليف مقارنة بحجم الدمار الذي يمكن حصوله، وأصبح سلاح النفط في يد المجموعات المختلفة أكثر أثراً وفتكا وتدميراً. وهذا يتضمن الطائرات بدون طيار (الدرونز)، والهجمات الإلكترونية على المنشآت النفطية، ووسائل الاتصال الاجتماعي.
وتكمن أهمية وسائل الاتصال الاجتماعي هنا في أنها مكّنت فئات غير معروفة وليس لها أي تواصل إعلامي من التواصل مع الناس مباشرة وتوصيل أخبار عملياتها، كما أنها مكّنت من انتشار الخبر بشكل كبير وسريع إلى كافة أنحاء العالم. بعبارة أخرى، مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي بعض المجموعات من تحقيق هدفها في الحصول على تغطية إعلامية واسعة، مع تصوير كامل لعملياتها في كثير من الأحيان، وهو أمر لم يكن ليحصل في الماضي.
ولعل أهم صفة للمرحلة الأخيرة من سلاح النفط أن التطور التكنولوجي يمكّن من إخفاء هوية الفاعلين، وبالتالي عدم معرفة الهدف من هذه العمليات، بينما يتم تصوير ونشر العمليات بالكامل.
التشابه بين سلاحي النفط التقليدي وغير التقليدي:
1- كلاهما يستخدم تخفيض إمدادات النفط كوسيلة للضغط على الحكومة أو الشركة المستهدفة لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية.
2- كلاهما يهدّد إمدادات النفط العالمية ويرفع أسعار النفط.
3- كلاهما يستخدمه الطرف الأضعف في الصراع أو الخلاف.
4- كلاهما لم يحقق أهدافه من استخدام سلاح النفط، إلا إذا كان الهدف التخريب فقط.
الفروقات بين سلاحي النفط التقليدي وغير التقليدي
1- عدد اللاعبين: لم يعد الأمر يقتصر على دول محددة ومعروفة، تعرف نقاط الخلاف، وتعرف ما يريده كل طرف من الآخر. فقد زاد عدد اللاعبين ليشمل مجموعات إرهابية، ومجموعات سياسية منزعجة من الوضع السائد، وأحيانا فئات عمالية منزعجة من ظروف العمل السيئة، وكل من يريد تحقيق مآرب معينة.
2- هوية اللاعبين: هوية الأطراف في السلاح التقليدي للنفط معروفة تماما، ويُعرف أماكن وجودهم، وطرق الاتصال بهم. هذه ليست الحالة في أغلب الأحيان في سلاح النفط التقليدي، حيث أن أي أزمة سياسية ينتج عنها لاعبون معروفون وغير معروفين يستخدمون سلاح النفط. هذه المشكلة تجعل الوصول إلى حل أكثر صعوبة، وقد يكون مستحيلا إذا تقمص طرف ثالث شخصية الطرف الثاني.
3- الأهداف: في سلاح النفط التقليدي، هناك دولة محددة والمشكلة بينهما معروفة، والهدف من استخدام سلاح النفط معروف. في سلاح النفط غير التقليدي، الهدف، في الغالب، غير معروف، وربما يقتصر على إلحاق أكبر ضرر بالعدو المستهدَف، بغض النظر عن أثر ذلك على المجموعة، أو أهدافها أو السكان.
4- التوقيت: التوقيت في استخدام سلاح النفط التقليدي معروف لكل الأطراف، وأحيانا قبل فترة طويلة. إلا أن هذه الحالة ليست قائمة في سلاح النفط الحديث أو غير التقليدي لأن عنصر المباغتة مهم لنجاح عمليات الهجوم، الأمر الذي يزيد من ذبذبة السوق ويرفع التكاليف.
5- التنسيق: تطبيق سلاح النفط التقليدي يتطلب أحيانا التنسيق بين عدة دول لتبني تصرف ما للوصول إلى هدف معين وواضح، كما حصل مع غالبية الدول العربية النفطية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أو العقوبات على إيران بين 2012 و2015، التي تطلبت تنسيقا بين عدد كبير من الدول في الأمم المتحدة. في سلاح النفط التقليدي رأينا عدة دول عربية تنسق بينها بهدف الاتفاق على إجبار الولايات المتحدة على وقف تسليح إسرائيل والضغط على إسرائيل للتراجع إلى حدود ما قبل 1967. هذه ليست الحالة في سلاح النفط الجديد غير التقليدي، حيث أن هناك تعارضاً بين هذه المجموعات وتعارضاً بين أهدافها، ومن دون أي تنسيق بينها، مع أن العدو قد يكون واحداً.
6- التكاليف: تكاليف سلاح النفط التقليدي منخفضة ولا تتعدى تكاليف إغلاق الآبار أو تخفيض الإنتاج والصادرات، لأنه لا ينتج عنه دمار للآبار والمرافق والمنشآت والأنابيب. أما في حالة السلاح الحديث غير التقليدي فإن التكاليف عالية بسبب الدمار. فهناك حاجة إلى أموال لإعادة البناء، كما أن تكاليف العمالة تزيد لأنها تعمل في أجواء غير آمنة، وبسبب ارتفاع تكاليف حماية المنشآت.
7- الأثر: يمكن للدول التي تتبنى سلاح النفط التقليدي أن تفرّق بين العدو والصديق، ولكن الذين يستخدمون سلاح النفط الحديث لا يمكنهم التفريق بين الصديق والعدو، وسيعاني الصديق تماما كما يعاني العدو. وهذا كان نتيجة تفجيرات ناقلات النفط في بحر عمان، حيث تأثر أعداء إيران وأصدقاؤها.
8- النتيجة: نتائج وعواقب سلاح النفط التقليدي معروفة ويمكن حسابها، ولكن لا ينطبق هذا الأمر على سلاح النفط غير التقليدي لأنه مفاجئ، وقد ينتج عنه آثار مدمرة، الأمر الذي يعني زيادة تذبذب الأسعار وارتفاع التكاليف وارتفاع الأسعار.
خلاصة الأمر أن سلاح النفط تطور بشكل كبير في السنوات الأخيرة بسبب دخول لاعبين جدد لا علاقة لهم بالحكومات من جهة، والتطور التكنولوجي من جهة أخرى. هذه التطورات تجعل من الصعب التنبؤ بسلاح النفط، وحجمه، وآثاره، وبالتالي تصعب السيطرة عليه أو مجابهته. والنتيجة الحتمية لذلك زيادة ذبذبة أسعار النفط وعدم استقرار أسواق النفط، مهما حاولت الدول المركزية في “أوبك” تحقيق الاستقرار في الأسواق. لقد دخلت أسواق النفط مرحلة جديدة من المخاطرة، والتي قد تفاجئ جميع الأطراف كما حصل في الهجوم على حاملات النفط في الخليج أو محطات الضخ في وسط صحراء السعودية.
اندبندت