عندما خرج وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، من اجتماعاته مع المسؤولين الإيرانيين في طهران، في العاشر من يونيو/ حزيران الجاري، بدا ممتقعا. وخلاف أكثر التحليلات السائدة حينها، حذّر من “أن الوضع في المنطقة خطير بشكل استثنائي، وأن الحرب يمكن أن تقع نتيجة أي خطأ في الحسابات”. وبالفعل، تدهور الوضع خلال أيام، بعد أن أسقطت إيران طائرة تجسّس أميركية مسيرة، تعد الأحدث والأغلى ثمنا من بين نظيراتها في ترسانة واشنطن العسكرية. ولكن تراجع الرئيس الأميركي، ترامب، عن الرد في اللحظة الأخيرة خفّف من حدة الاحتقان، إذ بدا أن ترامب يتجنب فعلا الدخول في مواجهةٍ عسكرية مع طهران، على الرغم من الضغوط التي تمارسها عليه بعض أركان إدارته ومن خارجها، لكن المتابع لتطور الأزمة لا بد أن يلحظ جملة من خطأ الحسابات التي ارتكبها الطرفان، وتُنذر إذا استمرا فيها بوقوع المواجهة التي يهربان منها، ويخشاها الوزير الألماني.
تتلخص استراتيجية ترامب الأصلية في التعامل مع إيران في ممارسة أقصى قدر من الضغوط الاقتصادية عليها، لدفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، للحصول على اتفاق جديد يعالج وضع برنامجيها، النووي والصاروخي، ونفوذها الإقليمي، ويكون بديلا للاتفاق الذي وقعه الرئيس السابق، أوباما، معها عام 2015. ونتيجة إدراكها مقدار الألم الذي ستسببه هذه العقوبات للاقتصاد الإيراني، وتجنبا للفشل الذي حصل في التعامل مع كوريا الشمالية، تبنّت إدارة ترامب استراتيجيةً أقرب ما تكون إلى استراتيجية أفعى “الباتون”، وتقوم على فكرة خنق الخصم من دون السماح له بالمقاومة، أو تمكينه من الرد، فيما يتم تحطيم عظامه، حتى يستسلم لقدره. بناء عليه، عزّزت الولايات المتحدة، بالتزامن مع الغاء الاستثناءات على شراء النفط الإيراني، والتوجه نحو تصفير صادراته، وجودها العسكري في المنطقة، لردع إيران، وثنيها عن الإتيان بأي رد فعل على العقوبات.
أما إيران، فقد تبنى مجلس أمنها القومي خيار “الصبر الاستراتيجي”، في مواجهة العقوبات الأميركية، حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، ووصول إدارة أميركية جديدة، يمكن التفاهم معها. وفي كلتا الاستراتيجيتين، لا ذكر لمواجهة عسكرية، ولا رغبة فيها. مع ذلك، كاد الطرفان يقعان في واحدةٍ الأسبوع الماضي، نتيجة أخطاء جسيمة في الحسابات.
تمثل خطأ واشنطن الرئيس في ثقتها الزائدة بأن استراتيجية الردع التي اعتمدتها سوف تمنع إيران من الرد على عملية خنقها بالعقوبات، أما إيران فقد ارتكبت جملة من الأخطاء، أولها ثقتها الزائدة في أن الأوروبيين، بدافع حرصهم على الاتفاق النووي ومصالحهم الاقتصادية الكبرى التي فتحها لهم في إيران، وتقدّر بعشرات مليارات الدولارات، سوف يتخذون موقفا صلبا في مواجهة العقوبات الأميركية، ويعملون على إيجاد مخارج تسمح لإيران بالصمود في وجهها حتى انتخابات 2020. وواقع الحال أن الأوروبيين لم يفشلوا فقط في تفعيل آلية (Instex) التي وعدوا بها لاستمرار تعاملاتهم التجارية مع إيران، بما فيها استيراد النفط، بل أيضا في إقناع شركاتهم في البقاء في إيران، والحفاظ على استثماراتهم فيها. الخطأ الثاني، أن إيران توقعت أن تمدّد إدارة ترامب إعفاءات الدول الثماني الكبرى، المشترية نفطها، خوفا من حصول صدمة في السوق، وارتفاع الأسعار نتيجة غياب النفط الإيراني. ولكن إدارة ترامب ألغت الإعفاءات، وقامت روسيا بتعويض النقص على الفور، ما جعل الأثر معدوما تقريبا على أسعار النفط. الخطأ الثالث أن إيران كانت تتوقع رفض كبار المشترين لنفطها، وهم الصين والهند وتركيا، الالتزام بالعقوبات الأميركية.
هذه الحسابات الخاطئة جعلت تأثير العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني أكبر مما كان متوقّعا، كما جعلت من المستحيل المضي في سياسة “الصبر الاستراتيجي”، لأن الاقتصاد الإيراني لن يقوى على الصمود حتى انتخابات 2020 الأميركية، فضلا عن أنه بات هناك احتمال أن يفوز ترامب بولاية جديدة، بعد خلاصات تحقيقات مولر. وهذا يعني أنه لم يعد أمام إيران إلا سياسة التصعيد التدريجي، لرفع تكاليف عملية حصارها على إدارة ترامب في سنة انتخابية حاسمة. والمشكلة أن إيران لا تعرف بالضبط متى لا يعود بإمكان ترامب الرد عليها، لندخل في متوالية التصعيد التي تصعب السيطرة عليها.
العربي الجديد