ماذا سيكون موقف العراق من أي مواجهة أمريكية مع إيران؟ الجواب كما يقول الزميل الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن أليكس فاتنكا بمقال في مجلة “فورين أفيرز”، لن يكون إلى جانب أمريكا. ويتحدث الكاتب هنا عن القمم الثلاث، الخليجية ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية التي عقدتها السعودية الشهر الماضي لحشد الدعم ضد إيران ولكن لخيبة أمل الرياض لم يكن الجميع معها في الحملة ضد إيران. ففي قمة الجامعة العربية تحدث الرئيس العراقي برهم صالح داعيا للحفاظ على استقرار إيران ومحذرا من حرب تترك أثرها على العراق والشرق الأوسط أجمع. وكانت تصريحات صالح تذكيرا للسعوديين والولايات المتحدة وهي أن بغداد ستكون ضعيفة أمام الضغوط الإيرانية. وبلا شك فإيران لديها خطط كبيرة للعراق. ومع أن العلاقة بين الجارتين شهدت حالاتها من الصعود والهبوط إلا أن إيران استثمرت سياسيا واقتصاديا في العراق وستزداد الإستثمارات على المدى القصير. فبعد العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها جعلت إيران العراق الرابطة التجارية المحتملة، والطريقة التي ستتمظهر هي بمثابة امتحان للإيرانيين والعراقيين ولإدارة دونالد ترامب. ويقول فاتنكا أن العقوبات التي فرضتها أمريكا على الجمهورية الإسلامية عام 2018 تعتبر الأقصى وفاجأت طهران التي لم يكن لديها خطة بديلة. ذلك أنها اعتمدت على شراكاتها التجارية مع دول آسيا وأوروبا كي تحميها من غضب الرئيس دونالد ترامب. وبدلا من الإلتزام بما نصت عليه اتفاقية عام 2015، وبدلا من ذلك قررت دولة بعد دولة تجنب العقوبات الأمريكية وحماية نفسها.
وكان الأثر واضحا وقويا، حيث تراجع حجم التجارة الخارجية الإيرانية مع دول الإتحاد الأوروبي (28 دولة) إلى 83% ما بين كانون الثاني (يناير) 2018- وكانون الثاني (يناير) 2019. وتوقف الأوروبيون عن شراء النفط الإيراني الذي يعد من الناحية التاريخية، شريان التجارة مع القارة الأوروبية. وتحولت إيران إلى جيرانها الأقرب وهي العراق وتركيا وأفغانستان على أمل أن تساعدها التجارة معها على تعويض الخسائر من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. وعندما يتعلق الأمر بالتحايل على العقوبات تلعب الجغرافيا دورا مهما. وبحسب منظمة الترويج للتجارة في إيران المرتبطة بوزارة الخارجية فالعقوبات الأمريكية قاسية بدرجة لم يعد أمام طهران إلا البحث عن علاقات تجارية مع دول الجوار. ودعت المنظمة الحكومة لتكييف القطاع غير النفطي والإبتعاد عن الزبائن الأباعد والتركيز على الشركاء الأقارب. فقد أدت العقوبات الأمريكية لخلق مشاكل للتجارة الإيرانية عبر البحار بما يقتضي من شحن وتأمين على الناقلات وتأمين عقودها التجارية والحصول على أموالها من موارد التصدير. ويظل العراق قريبا من إيران والبيروقراطية تعمل جيدا بين البلدين خاصة في الأمور التي لا يحتاج فيها التعامل بالدولار أو المرور على المؤسسات المالية التي تمنع التعامل مع كيانات تجارية إيرانية. والعراق قريب من الناحية الجغرافية من إيران وهو ما يساعدها لتجنب المصاعب التي تواجهها في التجارة البعيدة. ولهذا فالحديث الدائر في طهران هو جعل دول الجوار أولوية في التعامل التجاري لأنه التعامل معها لا يواجه نفس المصاعب التي يفرضها التعاون مع الآخرين.
وفي حالة العراق هناك أكثر من القرب فيما يتعلق بالعراق، فالإيرانيون لديهم علاقة قوية في بغداد ويستطيعون حشد الدعم من المسؤولين هناك وعلى المستويات العليا، كما هو واضح من تعليقات الرئيس صالح في القمة العربية. وتدعم العلاقات الإقتصادية النفوذ السياسي الإيراني. وتحول العراق في العقد الماضي إلى أكبر سوق للصادرات الإيرانية غير النفطية.وتصل قيمة العلاقات التجارية بين البلدين إلى 12 مليار دولار في العام وتريد طهران زيادتها إلى 20 مليار دولار. لكن ليس كل شيء يسير حسب الخطة الإيرانية، فبحسب وزير النفط الإيراني بيجان زنغنة، لن يفعل العراق أي شيء لمساعدة إيران التحايل على العقوبات الأمريكية إن كان هذا سيضر بعلاقاته مع الولايات المتحدة. ورفض العراقيون ولأشهر دفع المستحقات عليهم مقابل الغاز الطبيعي الإيراني متعللين بالعقوبات الأمريكية، كما ورفضوا القيام بعمليات تنقيب مشتركة على المناطق الحدودية بين البلدين. وهم ليسوا فوق الإنتهازية حيث زادوا من نسبة التصدير بـ 250.000 برميل في اليوم إضافي، في وقت انخفض فيه انتاج إيران من 2.5 مليون برميل إلى أقل من مليون برميل في اليوم. وبناء على التقارير الصحافية المحلية يخطط التجار الإيرانيون لتحويل مركز تجارتهم إلى العراق لتعويض خسارتهم دبي التي كانت مركزا لتجارتهم في الماضي. وقامت الإمارات العربية المتحدة واحتراما لعلاقاتها مع أمريكا وبناء على علاقاتها المتوترة مع إيران بالضغط على التجارة الإيرانية وامتنعت عن منح التأشيرات للإيرانيين وحرمت عليهم استخدام البنوك وشركات التأمين. وانخفضت التجارة بين البلدين لأدنى مستوياتها.
وتنظر إيران إلى العراق وبدرجة أقل إلى عمان كبديل عن دبي. وكان التغلب على الضغط الأمريكي هدف زيارة الرئيس حسن روحاني إلى بغداد في آذار (مارس) التي وقع فيها 22 برتوكول تعاون تجاري وأكثر من هذا كانت رسالة للسعودية والإمارات والولايات المتحدة أن إيران في العراق لتبقى. وكان لقاء روحاني مع المرجعية الدينية آية الله علي السيستاني تأكيد على النفوذ السياسي الإيراني في العراق. وجاءت زيارة روحاني في وقت بدأت فيه السعودية وحلفاء أمريكا بالدخول إلى العراق من بوابة الإستثمار وليس التنافس الأمني والسياسي مع إيران. واهتمت الصحافة الإيرانية بمحاولات السعودية الدخول إلى السوق العراقية وركزت على معرض للإنشاءات في مدينة أربيل شاركت فيه 400 شركة من 30 دولة، منها 22 شركة سعودية. ويشعر الإيرانيون بأن السعوديين يحاولون تطبيق أجندة معادية لهم في وقت يحتاجون فيه للعراق أكثر من آي وقت مضى. ورغم العلاقة الجيدة مع العراق إلا أن طهران عادة ما تبالغ في استخدام أوراقها، فعندما زار عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي طهران حثه أية الله علي خامنئي لطرد الأمريكيين والتزام الحذر من السعوديين.وتدخل كهذا غير مريح للعراقيين الذين يحاولون تحسين علاقاتهم مع الدول العربية والحفاظ على العلاقة مع الولايات المتحدة. فقبل وصوله إلى طهران زار عبد المهدي القاهرة وعمان. ولهذا يجب على إيران أن تلتزم بالحذر في تعاملها مع العراقيين وما تريده منهم في وقت يعملون فيه على تطبيع علاقاتهم مع الدول العربية. فتخفيف الوجود الأمريكي يعني تطبيقا للأجندة الإيرانية مما يعني خسارة ثقة الشركاء العرب الجدد الذين كافحت من أجل الحصول عليها. ويرى الكاتب أن استراتيجية “أقصى ضغط” تركت أثارها المدمرة على الأطراف الأخرى المتعاملة مع إيران، إلا أن العراق كان المتضرر الأكبر. وهو بحاجة لأن يكون محل انتباه الولايات المتحدة ليس لأنها بحاجة إليه. ويجب والحالة هذه ان تكون واعية لميزان القوى في العراق وألا تستهين بالحلفاء العراقيين الذين حصلت عليهم إيران منذ عام 2003. فإجبار العراق على الإختيار بينها وإيران ستكون له آثار عكسية. وتبدو إدارة ترامب مدركة لهذا الواقع، ويدل هذا الإعفاء الذي منحته واشنطن للعراق خاصة أنه يحصل على معظم الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران.
وعندما قررت الولايات المتحدة عدم تجديد الإعفاءات في نيسان (إبريل) قال العراقيون إن الإلتزام بالعقوبات ليس خيارا. وأخبروا واٍشنطن انهم يفضلون أن لا يتعرضوا لهذا الموقف ويسمح لهم بشراء الغاز والكهرباء حتى نهاية حزيران (يونيو). ومع ذلك فرضت واشنطن في 11 حزيران (يونيو) شركة عراقية لتعاملها مع الحرس الثوري الإيراني. وقد يجد العراق نفسه وفي وضع لا يحسد عليه نظرا للدور السياسي والأمني والتجاري الذي تلعبه إيران. فليس مبالغة لو قلنا أن هذه هي أكبر لاعب في العراق اليوم وتأتي بعدها الولايات المتحدة. وفي أسوأ الحالات قد يجد العراقيون والإيرانيون قنوات خلفية للتجارة قد تصل إلى حد خرق العقوبات، مما سيعرض بغداد للغرامات وخسارة الدعم الأمريكي، خاصة في المجال الأمني. ولهذا فالأضرار الجانبية للمواجهة مع إيران قد تؤدي لتقويض كل شيء فعلته أمريكا في العراق منذ الإطاحة بصدام حسين عام 2003. ويجب على أمريكا ألا تترك العراق بدون خيار جيد غير التواطؤ مع إيران، وهي نتيجة ستزيد من أعباء الدولة العراقية الضعيفة وتضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
القدس العربي