ربما كانت المفاوضات الدائرة مع إيران بشأن برنامجها النووي ستجري بقدر أكبر من السلاسة والوضوح لو كان يجلس على طاولة التفاوض في فيينا المرشد الإيراني علي خامنئي من جهة وقادة الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي من الجهة الأخرى. فالوفد الإيراني المفاوض الذي يمثل الرئيس روحاني والوفد الأميركي الذي يمثل الرئيس أوباما لا يملكان في الحقيقة القدرة على إبرام أي اتفاق نهائي إلا بعد العودة إلى أصحاب القرار الفعلي في البلدين، أي إلى رأس الهرم الإيراني وإلى أعضاء الكونغرس الذين سيكون على إدارة أوباما أن تعرض الاتفاق عليهم لتحصل على موافقتهم على أي تعهد برفع العقوبات عن إيران.
منذ بداية جولات التفاوض، التي صارت مثل رواية ألف ليلة وليلة، لكثرة ما أجلت شهرزاد الإيرانية التفاوض إلى اليوم التالي، كان واضحاً أن عدم الثقة هو العنصر الغائب عن نوايا المفاوضين. الأميركيون، ومثلهم جزء كبير من المجتمع الدولي، يشككون في نية إيران الاكتفاء ببرنامج نووي سلمي. ويتساءلون: إذا كان هذا البرنامج حقيقة سلمياً، فلماذا لم تعلن عنه إيران قبل أن تتسرب أخباره عبر المعارضة الإيرانية وأجهزة الاستخبارات الغربية؟ وتدعم هذا الشك التقارير المتكررة لوكالة الطاقة النووية التي رفضت تأكيد سلمية هذا البرنامج منذ تم الكشف عنه قبل أكثر من عشر سنوات. أما الإيرانيون فيشككون من جهتهم بالنوايا الغربية، ويظنون أن هدفها النهائي هو القضاء على الثورة الإيرانية، وليس فقط مراقبة مشروعها النووي.
ظل الأمر كذلك طوال فترة ولاية جورج بوش الابن ومحمود أحمدي نجاد. واحتاج إطلاق التفاوض من جديد إلى المناخ المعتدل الذي خيّم على الطقس في البلدين، في ظل باراك أوباما وحسن روحاني، فقد ربط الرجلان نجاحهما السياسي بهذا الاتفاق. أوباما اعتبر التطبيع مع طهران إنجازاً خارجياً تاريخياً يوازي في أهميته إعادة العلاقات مع كوبا أو اغتيال أسامة بن لادن. وروحاني اعتبر التقارب مع واشنطن تزكية لمشروعه الموصوف بـ «الإصلاحي» في وجه التيار الداخلي الذي يقود معركة مواصلة العداء للغرب، والذي يتمثل بشكل خاص بـ «الحرس الثوري». وفي ذهن روحاني أن رفع العقوبات أو تخفيفها يمكن أن يسهل إعادة تحريك العجلة الاقتصادية وتحسين ظروف الإيرانيين، وهو أمر يصعب تحقيقه إلا في حال التوصل إلى اتفاق يزيل الهواجس الغربية حيال إيران.
وفيما ترك الكونغرس الأميركي لأوباما مهمة التفاوض وأخذ على عاتقه مهمة العرقلة، وربما إلغاء الاتفاق بالكامل، خلال ثلاثين يوماً من التوقيع في فيينا (إذا تم ذلك بعد غد الثلثاء)، فإن روحاني وفريقه يواجهان مشكلة كسب رضا خامنئي صاحب «الخطوط الحمر» الشهيرة التي أعلنها الأسبوع الماضي. إذ كيف سيمكن مع هذه «الخطوط» التوصل الى اتفاق يرضي الغربيين، إذا لم يتضمن رفعاً تدريجياً للعقوبات بالتوازي مع تطبيق إيران التزاماتها، وكذلك مراقبة منشآتها العسكرية والتحقيق مع علمائها النوويين؟ وهما النقطتان اللتان اعتبرهما خامنئي من المحرمات، مؤكداً «نحن لا نقبل بأي طريقة من الطرق مثل هذا الأمر».
المفاوضات مع إيران في فيينا ليست نووية الطابع فقط. إنها مفاوضات سياسية تتعلق بالدرجة الأولى بالصورة المطلوبة من إيران بعد الاتفاق. من الصعب أن تبقى إيران «ثورية» كما تريد أن تقدم نفسها بعد اتفاقها مع قوى «الاستكبار العالمي». ولذلك، وفي حجم الصعوبات التي تواجه مفاوضات فيينا، يمكن تصور مفاوضات لا تقل صعوبة تدور في طهران، حول الوجهة التي ستسير عليها بعد الاتفاق النووي، إذا حصل، في ما يتصل بمشروع الثورة وبعلاقة إيران مع الإقليم المحيط بها ومع العالم الخارجي. لا بد أن تحسم إيران أمرها وتقرر مصدر الخطر الأكبر على مستقبل النظام والبلد: هل هو في بقائها داخل جدران العزلة الدولية كما هي الآن، أو في إنهاء هذا الوضع والتطبيع مع العالم، مع ما يترتب على ذلك من أثمان سياسية واقتصادية لا بد من دفعها؟