اصطحب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، في زيارة إلى منطقة الأغوار (غور الأردن) يوم 23 يونيو/ حزيران الجاري، وذلك قبيل الاجتماع غير العادي الذي عقده مستشارو الأمن القومي، الإسرائيلي والأميركي والروسي، في القدس المحتلة، لبحث قضايا متعلقة “بأمن المنطقة واستقرارها”، وفقاً لنتنياهو الذي لا يمكن فصل اصطحابه بولتون إلى الأغوار عن سلسلة الإملاءات التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على الفلسطينيين، وتعرف إعلاميًا باسم “صفقة القرن”. وهي الإملاءات التي بدأت مع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل، وقطع المساعدات الأميركية عن وكالة غوت وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، والاعتراف بسيادة إسرائيل على منطقة الجولان، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ووقف المساعدات الأميركية عن الفلسطينيين، وليس أخيرًا إعادة طرح فكرة “السلام الاقتصادي”، في ورشة العمل غير العادية في المنامة، “السلام من أجل الازدهار”.
بات معلومًا أن سلسلة الإملاءات هذه ما هي إلا محاولة أميركية لشرعنة واقع استعماري فرضته إسرائيل على الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948. فإسرائيل، ومن دون أن تلتفت إلى الولايات المتحدة، تعمل وفقًا لما تعرف بـ “سياسة الأمر الواقع الإسرائيلي”، أو ما يسمى “إقامة الوقائع” (Creating Facts)؛ إذ أن بقاء إسرائيل، كما فهمه مؤسسو الدولة، يتوقف على فكرة مبسطة، هي حيازة الأرض، بصفتها الأساس الذي بنيت عليه نهضة القومية اليهودية، وذلك إلى جانب طرد السكان الفلسطينيين وتهجيرهم منها.
جاءت هذه الزيارة غير المسبوقة التي اصطحب بها نتنياهو مسؤولًا أميركيًا رفيع المستوى بحجم بولتون إلى منطقة الأغوار، ضغطًا إسرائيليًا جديدًا على الإدارة الأميركية، من أجل شرعنة واقع استعماري استيطاني قائم في الأغوار، فمن بؤرة استيطانية على إحدى تلال الأغوار، صرّح نتنياهو “الانسحاب الإسرائيلي من منطقة الأغوار لن يجلب السلام، وإنما
“زيارة بولتون إلى الأغوار تمثل ضغطًا إسرائيليًا جديدًا على الإدارة الأميركية، لشرعنة واقع استعماري استيطاني قائم في الأغوار” سيجلب مزيداً من الحرب والإرهاب”. ورد بولتون “بدون أمن، لن يكون هناك سلام، ويمكنني أن أضمن لك أن الرئيس ترامب سيأخذ في الاعتبار المخاوف التي عبرت عنها بوضوح على مرّ السنين”.
ترجع الأبعاد الاستعمارية في الأغوار إلى الفترة التي أعقبت حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وطرد نحو 88% من سكان المنطقة، فبعد انتهاء الحرب، وتحديدًا في يوليو/ تموز، وضعت إسرائيل خطة آلون (نسبة إلى وزير العدل الإسرائيلي إيغال آلون) سعت منها إلى تلبية احتياجاتها الأيديولوجية والأمنية والاقتصادية، وبتصور تنجز من خلاله تسوية تضمن لها السيطرة والاستيلاء على الأرض التي تعود ملكيتها للفلسطينيين وبأقل عدد منهم.
وبعد أكثر من عقدين على تلك الحرب، حفزت الأهمية الإستراتيجية للأغوار المفاوض الإسرائيلي على استبعاد هذه المنطقة من أي التزام إسرائيلي تنص عليه الاتفاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، إذ حافظت إسرائيل على أكثر من 90% من هذه المنطقة خاضعةً للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية.
وأعطت خطة آلون واتفاقات أوسلو إسرائيل القدرة على فرض الأمر الواقع في منطقة الأغوار، بالسيطرة على الأرض الفلسطينية والاستيلاء عليها، وفرض نموذج التخطيط الحضري بما يتوافق مع المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبناء المستوطنات الزراعية والعسكرية والمدنية، وشقّ طرق رئيسية وفرعية، تربط بين المستوطنات والسيطرة على الموارد الطبيعية من آبار المياه وخزاناتها، وهدم التجمعات البدوية الفلسطينية وتهجير سكانها، ومنع تطور القرى
“ترجع الأبعاد الاستعمارية في الأغوار إلى الفترة التي أعقبت حرب حزيران 1967، وطرد نحو 88% من سكان المنطقة” الفلسطينية، وفرض القيود على تنقل الفلسطينيين ووصولهم إلى أراضيهم.
عملت إسرائيل في هذه الوقائع التي فرضتها إسرائيل منذ يونيو/ حزيران 1967 إلى تمهيد الطريق لتصبح الأغوار تجمعًا استيطانيًا إسرائيليًا على المدى الطويل، وأمرًا واقعًا على المدى القصير، في حال وجود مبادرة تهدف إلى حلّ القضية الفلسطينية. ولهذا، لا يمكن فهم زيارة بولتون إلى الأغوار، رفقة نتنياهو، بمعزلٍ عن زيارة السيناتور الأميركي، ليندسي غراهام، إلى الجولان، قبل اعتراف الإدارة الأميركية بسيادة إسرائيل على الجولان، سيمّا وأن تصريحات غراهام عند زيارته تلك تشبه تصريحات بولتون عند زيارته الأغوار، وهو الذي اعتبر (غراهام) الجولان منطقة ضرورية لضمان أمن إسرائيل، ووعد حينه بأنه سيقنع الإدارة ومجلس الشيوخ الأميركيين للاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان.
نحن أمام منطقة فرضت إسرائيل عليها واقعًا استعماريًا استيطانيًا منذ 1967، ولا يمكن فصل هذه الزيارة عن مسعى نتنياهو ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل، فهو الذي عبّر، عن نيّته، ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، في لقاء جمعه مع الرئيس ترامب في مارس/ آذار الماضي. وتتساوق هذه الوقائع والنوايا الإسرائيلية إلى جانب زيارة المسؤول الأميركي تتساوق بشكل لا لُبّس فيه مع جهود السفير الأميركي في
“منذ حزيران 1967 مهدت إسرائيل الطريق لتصبح الأغوار تجمعًا استيطانيًا إسرائيليًا على المدى الطويل” إسرائيل ديفيد فريدمان لضم أجزاء من الضفة الغربية. كيف لا؟ وهو الذي صاحب نتنياهو وبولتون في زيارتهم إلى الأغوار، كما صاحب نتنياهو وغراهام في زيارتهم إلى الجولان، كيف لا؟ وهو الذي صرح في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز قبل أقل من أسبوعين “في ظل ظروف معينة، أعتقد أن إسرائيل تملك الحق في الاحتفاظ بجزء من الضفة الغربية”.
في خضمّ مساعي إسرائيل تطبيع الوقائع التي أوجدتها على الأرض بجعلها أمرًا طبيعيًا، وعلى الفلسطينيين القبول بها؛ يرى نتنياهو في سلسلة الإملاءات الأميركية المفروضة على الفلسطينيين فرصةً من أجل شرعنة هذه الوقائع، وإقناع المجتمع الدولي بها، فهو من جهةٍ يرى أن السلطة الفلسطينية بلا إستراتيجية واضحة، تمكّنها من مواجهة هذه الضغوط، وهي التي تكتفي بقول لا. ومن جهةٍ ثانيةٍ، يرى انحطاطًا عربيًا يتمثل في غياب ردود فعل واضحة على هذه الضغوط.
ويعني هذا الواقع الذي يطمح له نتنياهو أن يصبح الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي أمرًا مفروغًا منه، وبحجة حماية أمن الشرق الأوسط واستقراره، غير أن الأمن هنا يعني أمن إسرائيل وليس أمن المنطقة. ضم الأغوار جزء من هذه الوقائع المفروضة على الأرض، وما يحتاجه نتنياهو هو تصريح أميركي جديد، كما التصاريح التي حصل عليها سابقًا من الولايات المتحدة. هذه الإملاءات والضغوط الأميركية لا حدود لها، فالوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض منذ استعمارها فلسطين لم تنتهِ. يبقى الواقع الذي لن تغيره إسرائيل والولايات المتحدة، وهو أن الفلسطيني باقٍ على أرضه، ولن يفنى.
العربي الجديد