موجة الاحتجاجات العائدة بقوّة إلى عدد من مناطق العراق، لاسيما مناطق جنوب البلاد حيث الحاضنة الشعبية للأحزاب الشيعية، لا تشكّل فقط تحدّيا للحكومة المركزية والحكومات المحلية، بل تمثّل تحديا أكبر للأحزاب الحاكمة وللنظام الذي تشكّله، الأمر الذي يفسّر استنفار تلك الأحزاب واستعدادها لاستخدام أذرعها المسلّحة لقمع الاحتجاجات ووأد ثورة محتملة يمكن أن تنجم عنها.
الناصرية (العراق) – بدأت شرارة الاحتجاجات المتنقلة في مناطق جنوب العراق توقظ لدى الطبقة القائدة للعملية السياسية العراقية والمستفيدة منها، هواجس تحوّل الحراك الاحتجاجي الدائر حول مسائل مطلبية إلى ثورة شعبية تستهدف النظام القائم برمّته وتسعى إلى تغييره من الأساس، بعد أن ثبت فشله واستعصاؤه على الإصلاح.
وما يضاعف من تلك الهواجس أنّ منطلق الثورة المحتملة هو المناطق ذاتها التي لطالما مثّلت الحاضنة الشعبية والخزّان البشري للأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق منذ سنة 2003.
وتؤكّد مصادر عراقية أنّ زعماء أحزاب سياسية وقادة ميليشيات مسلّحة يحملون سيناريو تحوّل الاحتجاجات إلى ثورة شعبية على محمل الجدّ وبدأوا بالفعل بالتحسب له وتدارس سبل مواجهته.
وتشرح المصادر ذاتها أنّ التوجّه السائد لدى هؤلاء يتمثّل في عدم الاكتفاء بالتعويل على القوات النظامية في مواجهة الاحتجاجات وقمعها، بل منح دور أساسي في ذلك للميليشيات المسلّحة كونها أكثر عقائدية وأشدّ التزاما بأوامر قادتها الذين هم أنفسهم من كبار أعمدة النظام.
وسُجّل إثر الاحتجاجات التي شهدتها العام الماضي مناطقُ بجنوب العراق وتركّزت بشكل أساسي في محافظة البصرة، انتشار ظاهرة اختطاف النشطاء البارزين بالحراك الاحتجاجي واغتيالهم، ولم يتمّ إلى حدّ الآن تحديد المسؤوليات عن تلك الجرائم التي نسبها كثيرون إلى قوّة مرتبطة بالحشد الشعبي تحمل اسم “قوات التعبئة الاحتياطية” وأشرف على تشكيلها من بضعة آلاف من المتطوّعين نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس بهدف المشاركة في قمع الاحتجاجات وملاحقة الداعين إليها والمحرّضين على تصعيدها.
كذلك أشارت مصادر حقوقية إلى تورّط ميليشيات عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراق وحركة النجباء في ملاحقة واغتيال النشطاء وخصوصا المعروفين بمعارضة نفوذ إيران في العراق والمحرّضين على رفع شعارات ضدّ طهران التي تعتبر الميليشيات الثلاث من أقوى أذرعها في البلد.
وخلال السنوات الأخيرة أصبح اندلاع الاحتجاجات الشعبية ظاهرة ملازمة لفصل الصيف الذي يكشف بحرارته اللاهبة هشاشة البنى التحتية وتردّي خدمتي التزويد بالماء والكهرباء، الأمر الذي يذكّر العراقيين بظاهرة الفساد المتغلغلة في مفاصل الدولة وبفشل تجربة الحكم التي تقودها الأحزاب الدينية وتبديدها الثروات الضخمة للبلد المصنّف ضمن كبار منتجي ومصدّري النفط العالميين فضلا عن امتلاكه ثروات أخرى فشلت الحكومات في استغلالها وتطويرها فتراجعت وقلّت مردوديتها.
وخلال الاحتجاجات يتجلّى التحدّي الذي تشكّله المظاهرات للنظام القائم والأحزاب القائدة له من خلال طبيعة الشعارات المرفوعة من قبل المتظاهرين والمنددة بفساد الطبقة السياسية والداعية إلى إسقاط رموزها.
وعادت خلال الأيام الأخيرة موجة الاحتجاجات الشعبية إلى البصرة وانتقلت شرارتها شمالا إلى محافظة ذي قار حيث حاصر المحتجّون مقرّ المجلس البلدي في قضاء الإصلاح شرقي المحافظة وقرّروا الاعتصام حوله حتى تحقيق مطالبهم بتوفير مناصب الشغل للشباب العاطلين وتحسين مستوى الخدمات.
وتتخوّف السلطات العراقية من انتقال شرارة الاحتجاجات إلى بغداد بعد أن بدأت بالفعل الدعوات إلى الاحتجاج والتظاهر في العاصمة تملأ مواقع التواصل الاجتماعي.
وكانت بغداد قد شهدت خلال السنوات الماضية احتجاجات عارمة بلغت مديات كبرى وتمّ خلالها اقتحام المنطقة الخضراء المحصّنة وصولا إلى مقرّ مجلس النواب الذي اقتحمه المتظاهرون احتجاجا على فساد أعضائه.
غير أنّ تلك الاحتجاجات كانت مؤطّرة من قبل التيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، ما يعني أنّ لها سقفا أعلى لا يمكن أن تتجاوزه بحيث تمثّل تهديدا للنظام، على العكس من احتجاجات البصرة التي بدت أكثر تلقائية ولم تقف خلفها جهة بعينها بحيث يمكنها أن تتحكّم فيها وترسم لها خطوطا حمراء.
ومع عودة الاحتجاجات عادت ظاهرة اختطاف النشطاء وترهيب أسرهم عبر مداهمة منازلهم في ساعات متأخرة من الليل من قبل عناصر مسلّحة وملثّمة في الغالب وترتدي أزياء مدنية.
وتداولت وسائل إعلام محلية ومواقع التواصل الاجتماعي الأحد والإثنين أنباء اختطاف نشطاء بارزين بالحراك الاحتجاجي من بينهم ناشط معروف في البصرة يدعى كاظم السهلاني، وآخر يعرف بأسامة عبدعلي حسين وثالث اسمه علي علاء جبار ورابع يدعى حسن علاء حسن وغيرهم ممن أوردت تلك المواقع أسماءهم.
كما تمّ تسجيل مداهمات ليلية لمنازل العديد من النشطاء والعبث بمحتوياتها وإهانة الأسر المقيمة فيها وترهيبها وتهديدها بالقتل وإحراق المنازل إن لم تمنع أبناءها من المشاركة في الاحتجاجات. ويحمل النشطاء وقادة الحراك الاحتجاجي التهديدات بالقتل على محمل الجدّ استنادا إلى تجارب سابقة، حيث تمّ العام الماضي تسجيل العديد من حالات الاغتيال اُتّهت الميليشيات بتنفيذها، لكنّ التحقيقات التي تمّ الإعلان عن فتحها لم تفض إلى إدانة أي طرف ما يدل على وجود جهات نافذة خلف تلك الاغتيالات التي أودت بالناشطة والحقوقية سعاد العلي وبرجل الدين المعروف بتأييده للمحتجّين الشيخ وسام الغراوي الذي سقط برصاص مسلحين مجهولين هجموا عليه أمام منزله في منطقة الموفقية وسط مدينة البصرة، كما أودت بالمعاون الطبي الشاب حيدر شاكر في المدينة نفسها.
العرب