بعيداً عن أهدافها الاستراتيجية الكبرى، مثّلت الساحة السورية فرصةً مهمة لموسكو، لا فقط لعرض جيل جديد من الأسلحة والمعدّات القتالية وتجريبه من أجل تسويقها وبيعها (ارتفعت مبيعات الأسلحة الروسية بعد التدخل في سورية بنسبة 30%)، إنما مثلت أيضاً مناسبة لإظهار مهاراتها في السياسة والدبلوماسية. وبمقدار ما كشفت سورية عن مستوى العنف الذي يمكن أن تستخدمه روسيا لتحقيق غاياتها، كشفت في المقابل عن قدر هائل من الانتهازية والقدرة على المراوغة واقتناص الفرص. لقد انتظرت موسكو أكثر من أربعة أعوام للتدخل عسكرياً في سورية، ولم تفعل حتى تأكدت يقيناً من انعدام أي حافزٍ أو اهتمامٍ لدى واشنطن، بنتيجة الصراع فيها، كما انتظرت حتى جاءتها إيران تطلب مساعدتها، بعد أن يئست من قدرتها على إنقاذ استثماراتها السورية. بعد ذلك، سلّفت موسكو الرئيس التركي أردوغان، موقفاً مهماً خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، وتزعم مصادر أنها هي من أطلعه عليها قبل ساعات فقط من وقوعها، ما حدا بالمتآمرين إلى تسريع تنفيذها قبل اكتمال عناصر نجاحها. من هذه النقطة بدأت موسكو بتنفيذ خطة سحب تركيا بعيداً عن واشنطن، فأغرتها بعملية درع الفرات التي أمّنت بها منطقتها الحدودية الممتدة بين جرابلس وأعزاز، وأقنعتها بدخول مسار أستانة بعد اتفاق حلب، وضمت إليه إيران، حتى لا تخرب عليها، قبل أن تخترع قصة “مناطق خفض التصعيد”، التي مكّنتها من تجميد الصراع بين النظام والمعارضة طوال عام 2017، والتفرغ للسباق مع الأميركيين على وراثة مناطق سيطرة تنظيم “داعش”، لتعود عام 2018 وتحسم الصراع مع المعارضة في “مناطق خفض التصعيد”.
لنحو عامين، تمكّنت روسيا باقتدار من إدارة علاقاتها بشريكيها في مسار أستانة، فكانت تلعب على تناقضاتهما حيناً، وتستثمر في تخوفاتهما المشتركة من السياسات الأميركية حيناً آخر، تستخدم إيران وجنودها في الحرب والقتال، وتلجأ إلى تركيا وأدواتها في السياسة والمفاوضات، بحسب الحاجة. ولكن هذا المسار يوشك أن يستنفد أغراضه الآن، مع تزايد التناقضات في الرؤى والمصالح بين أعضائه، من جهة، واختلاف متطلبات المرحلة المقبلة من جهة ثانية، التي يرى الرئيس بوتين أنها تحتاج إلى مال كثير، وقليل من الحرب والمفاوضات، حتى يتمكّن من قطف النتائج السياسية والاقتصادية لمغامرته السورية. تركيا وإيران لا تملكان المال، ولا التأثير الكافي لمحض الشرعية للمسار الذي يوشك أن يطلقه، وصولاً إلى انتخابات 2021 الرئاسية في سورية. من هنا جاء قرار فتح مسار جديد ينطلق من القدس، بشركاء مختلفين (أميركا وإسرائيل).
طرأت فكرة المسار الجديد لرسم خريطة المصالح في سورية، خلال زيارة بنيامين نتنياهو موسكو مطلع إبريل/ نيسان الماضي، التي أنهت توتراً في العلاقة بين الطرفين استمر ستة أشهر، بعد أن تسببت إسرائيل في إسقاط طائرة الإليوشن الروسية فوق الساحل السوري، خلال اشتباك وقع في واحد من اعتداءاتها المتكررة على الأراضي السورية في سبتمبر/ أيلول 2018، وقتل فيها نحو عشرين عسكرياً روسياً. اختلفت المصادر بشأن صاحب فكرة إطلاق مسار ثلاثي، يجمع مستشاري الأمن القومي في روسيا وأميركا وإسرائيل، ويعمل آلية دائمة للتوصل إلى تفاهمات في الوضع السوري، بوتين أم نتنياهو… بغض النظر، يبدو أن إسرائيل تسعى إلى أداء دور عراب العلاقات الروسية – الأميركية، لترتيب الوضع في سورية، ومنها إلى بقية المنطقة، أخذاً بالاعتبار مصالحها. في حين يريد بوتين أن تؤدي إسرائيل دور الجسر في العلاقة مع واشنطن التي تزداد حاجة موسكو لها لبلوغ خط النهاية في سورية، والحصول على إقرار رسمي منها بنفوذها ومصالحها في المنطقة. حتى يحصل ذلك، يريد ترامب ونتنياهو مساعدة بوتين في إخراج إيران من سورية، والحفاظ على مكاسب الكرد في الشرق السوري، واحتواء الطموحات التركية في الشمال. يريد بوتين من واشنطن، في المقابل، “السماح” للدول العربية، الخليجية خصوصاً، بتطبيع العلاقات مع دمشق، وتمويل إعادة الإعمار، لتصبح المعادلة على الشكل التالي: يبيع بوتين الإيرانيين والأتراك لصالح الأميركيين والإسرائيليين، إذا حصل على التمويل العربي المناسب لمشاريع إعادة إعمار سورية. المفارقة أنه في أستانة، غاب العرب، وتركوا سورية نهباً لمشاريع الآخرين. وفي القدس، حضر الدور العربي، إنما من خارج القاعة، وممولاً مشاريع الآخرين!
العربي الجديد