روسيا هي ثالث ثلاثة بين القوى العظمى في عالم اليوم: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا. هي ليست قوى متماثلة من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ ولكن أياً كانت التركيبة و«الخلطة» من هذه الأبعاد فإنها مؤثرة، ولها دور ما على كوكب الأرض. روسيا ليست قوة اقتصادية كبيرة، ولن تسمع أبداً عن ثلاجة أو سيارة أو كومبيوتر روسي له سمعة دولية حميدة، ورغم ما لها من صناعات فضائية مشهودة، فإنها تعتمد في التكنولوجيا المدنية المتقدمة على الغرب أو الصين كما فعلت مؤخراً بصدد تكنولوجيا G – 5، ولا توجد لديها شركة تكنولوجية متقدمة تماثل «آبل» أو «علي بابا»؛ كبرى شركات روسيا استخراجية في النفط والغاز. ولكن ما يجعل روسيا قوة عظمى أولاً أن لها تاريخاً قريباً في المكانة بهذه الطريقة عندما كانت «الاتحاد السوفياتي»، هنا فهي عظمى بالوراثة، ومن ثمّ فإنها تحمل تقاليد دبلوماسية وسياسية تجعلها تعرف كيف تتصرف باعتبارها هكذا. وثانياً أن جزءاً مهماً من الوراثة هي القدرات العسكرية النووية التي تكفي لدمار الكرة الأرضية عدة مرات. ورغم أن هذه القدرات لم تحمِ الاتحاد السوفياتي من السقوط، فإنها في دورة العلاقات الدولية الراهنة لا بدَّ من احتسابها، خصوصاً أنها -ثالثاً- تقف خلف القدرة على استخدام القوة العسكرية التقليدية كما حدث في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، حيث بات لها أثر في تغيير موازين القوى، وتمدد حلف الأطلنطي في آسيا الوسطى وشرق أوروبا وفي الشرق الأوسط. ورابعاً أن روسيا لديها «رجل قوي» وحاذق في استخدامات القوة والدبلوماسية هو فلاديمير بوتين، وعلى مدى العقدين الماضيين فإنه لم يُخرج روسيا فقط من «العشرية السوداء» لعقد التسعينات من القرن الماضي، وإنما استعاد الكثير من أرضية الدولة العظمى.
هو يمثل إلى حد كبير دور الفرد في التاريخ حينما يجتاز ببلاده مرحلة إلى مرحلة أخرى، ويشكّل الفارق ما بين الضعف والقوة، والشموخ والهوان. وحينما ظهرت القوات الروسية في الشرق الأوسط على الساحة السورية تغير الكثير من التاريخ.
لم يكن المسرح السوري من المسارح السهلة في الصراعات الإقليمية ليس فقط لانهيار الدولة السورية، أو تعدد طوائفها وفرقها، أو نجاح الجماعة الإرهابية «داعش» في إنشاء دولة «الخلافة»؛ وإنما فوق ذلك كله كانت هناك حزمة كبيرة من التدخلات الإقليمية والدولية من أول الولايات المتحدة ومعها دول من الحلف الأطلنطي، إلى «حزب الله» اللبناني الذي يحارب حروباً إيرانية بالوكالة، وتركيا التي تريد موطئ قدم في شمال سوريا يمنع قيام دولة كردية من أي نوع، وربما يستعيد بعضاً من الوجود العثماني السابق على الحرب العالمية الأولى! موسكو بالقوة العسكرية والسياسة والدبلوماسية نجحت في استعادة وجود الدولة السورية، وإسقاط دولة الخلافة، وخلق علاقة ثلاثية مع تركيا وإيران في «الآستانة» للبحث عن حل، وعقد صفقات لتقليل الصراع، وفك الاشتباكات، وتبادل الوجود والحضور لطوائف متعارضة؛ وربما الأهم من ذلك كله أنها فعلت ذلك بينما تنسق مع الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع تصادم الطائرات العسكرية في السماوات، وإقامة منطقة محايدة من المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل. بكل المقاييس كانت هذه إنجازات كبيرة لم تضع نهاية للأزمة السورية المستحكمة منذ نشوب الربيع السوري المغدور وحتى الآن، حيث لا يزال الصراع حول «إدلب» مستعراً؛ ولكنها وضعتها على طريق التهدئة، إن لم تكن التسوية، ولم يكن ذلك ليتحقق دون قدر غير قليل من المقدرة العسكرية والدبلوماسية.
النجاح العسكري والدبلوماسي في العلاقات الدولية يكوّن أرصدة للدولة تستخدمها في مجالات أخرى؛ وفي الأزمة السورية كثّفت روسيا من علاقاتها مع كل الأطراف المهتمة والمؤثرة في الشرق الأوسط؛ وفي الوقت الراهن فإنها تستخدمها لحل الأزمة الإيرانية. وخلال الأسبوع الماضي فقط تدخلت بقدرات دبلوماسية سرية، وأخرى علنية، في منع نشوب الحرب بين إيران والولايات المتحدة، وفعلت ذلك بحياء لا يخدش المكانة الخاصة للولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترمب. وفي شبكة من الاجتماعات التي جرت في القدس مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وأخرى من الاجتماعات في موسكو مع مصر، وثالثة من الاتصالات التي لا تتوقف مع تركيا وإيران فإنها خلقت لنفسها دوراً في الأزمة الراهنة لا يمكن الاستغناء عنه بعد أن فشلت جهود اليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وسويسرا والعراق في منع التصعيد الجاري من الوصول إلى نقطة الحرب الساخنة. وواحد من أسباب احتدامها أن الهدف النهائي End Game للأطراف يستحيل تحقيقه بالنسبة إلى الطرف الآخر. فالولايات المتحدة تريد العودة إلى نقطة الصفر في الاتفاق النووي بحيث يعاد النظر فيه كلّيةً بالإضافة إلى أمور أخرى، أما إيران فإنها تريد بقاء الاتفاق السابق على حاله (السعودية والإمارات وباقي الدول العربية تريد الحل مؤدياً إلى إيقاف الحوثيين، عملاء إيران، وإنهاء الحرب في اليمن لصالح الحكومة الشرعية).
حل هذه المعضلة يكون بالدعوة مرة أخرى إلى محادثات بين القوى التي شاركت في عقد الاتفاق النووي (5 + 1) للنظر في الأزمة الراهنة ومطالب الأطراف فيها. في مثل هذه الحالة فإن إيران يمكنها الادعاء أنها لم تعد إلى نقطة الصفر مرة أخرى؛ أما الولايات المتحدة فيمكنها الادعاء أنها جعلت إيران تتراجع وتبحث في اتفاق جديد. في كل الأحوال يمكن للأطراف المشاركة (وهذا يعطي دوراً لروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) التعامل مع موضوع واحد يمكن النظر فيه، والتوصل إلى اتفاق ليس بالضرورة مختلفاً جذرياً عن الاتفاق الأول. النموذج الخاص بهذا الحل جرى من قبل في اتفاقية «نافتا» الخاصة بمنطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك حينما طرح ترمب إلغاءها، وصممت كندا والمكسيك على بقائها، ولكن التفاوض مرة أخرى أنتج اتفاقية تماثل الاتفاقية الأولى تقريباً (قيل 95% منها) وزعم ترمب أنها هي التي تحقق المصالح الأميركية. وهكذا خرجت كل الأطراف منتصرة، وبات في إمكان ترمب الادّعاء أنه وقّع على اتفاقية أفضل من تلك التي وقّعها سابقوه!
هل تفعل ذلك روسيا، وتستغل اجتماعات مجموعة الدول العشرين، واللقاء المقرر بين بوتين وترمب للتوصل إلى صيغة تعيد النظر في الاتفاق النووي، ويمكن ترويجها مع إيران التي تتشابك مصالحها في سوريا مع المصالح الروسية؛ وبشكل ما فإن روسيا كانت الجسر الذي تمت عليه «صفقة» إسرائيلية إيرانية تحدد مناطق التأثير والحماية دون اشتباك أو مواجهة من خلال 100 كيلومتر كافية لكي تفصل ما بين المصالح «الحيوية» للطرفين؟ خلال الاجتماع الثلاثي في القدس الذي عُقد بحضور ممثلي الأمن القومي في الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل: جون بولتون ونيكولاي باتروشيف ومائير بن شابات، فإن باتروشيف لم يكفّ عن ترديد احترام المصالح الخاصة بإيران، وما يراه أنه مصلحة إيرانية في مقاومة الإرهاب، وضرورة أخذها في الاعتبار. روسيا ربما تفعل ذلك لنزع الفتيل من الأزمة باعتبارها الوسيط الأخير الذي ربما إذا فشلت وساطته لن تكون المدافع صامتة بعدها!