تمارسُ إيران سياسة ضغط مقابلة لسياسة الضغط القصوى التي تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب. موقف ترمب من الاتفاق النووي الإيراني رغم أنه يرجع إلى رغبته في تحقيق إنجاز واتفاق آخر بشروط موسَّعة مع إيران، فإن هناك سبباً آخر دفعه إلى اعتبار الاتفاق سيئاً، فحينما عقد أوباما الاتفاق كان يهدف منه إلى إنهاء العزلة الدوليَّة عن إيران، بما يدفعها إلى التهدئة وتحسين علاقتها بالدول المجاورة، وشيوع حالة من السلام البارد بينهم.
لكن، ما حدث أن الاتفاق دفع إيران إلى مزيدٍ من السياسات الاستفزازية، إذ عزز الاتفاقُ قدرة إيران العسكريّة لدعم حلفائها، ووفقاً لقرار مجلس الأمن 2231 لسنة 2015، الذي ينص على إنهاء العمل بأحكام قرارات مجلس الأمن السابقة سيتم رفع الحظر على استيراد وتصدير الأسلحة الإيرانية في مدة أقصاها خمس سنوات.
كما أوضح مدير الاستخبارات الأميركية في شهادته عام 2017 أن إيران ما زالت تواصل تطوير مجموعة من القدرات العسكريّة الجديدة لمراقبة واستهداف الولايات المتحدة والأصول العسكريَّة المتحالفة بالمنطقة، بما في ذلك الطائرات دون طيَّار، والألغام البحريَّة المتقدمة، والغواصات والتوربيدات المتقدمة، وصواريخ كروز مضادة للسفن والأرض الهجوميَّة.
وتحاول إيران استعراض القوة العسكريَّة من خلال القوات البحريَّة التابعة إلى فيلق الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) التي تعمل بقوة في الخليج ومضيق هرمز، وسجَّلت البحريَّة الأميركيّة نحو 14 حالة لما وصفته بالتفاعلات “غير الآمنة أو غير المهنية” مع القوات الإيرانية خلال عام 2017، كما سجَّلت 36 حادثاً من هذا القبيل في عام 2016، و22 حادثاً في عام 2015. هذه التقارير تشير إلى أن الاتفاق لم يدفع إيران إلى التهدئة بالمنطقة بقدر ما أوضحت أنها لم تغير سلوكها. وكانت هذه هي مبررات الرئيس ترمب.
من هنا بدأت إيران مؤخراً اتباع سياسة الضغط الأقصى في مقابل كل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فعلى الرغم من اجتماعها مع الدول الموقّعة على الاتفاق في فيينا منذ أيام مضت، وإعلان الطرف الأوروبي تفعيل آلية “أنستكس” وإمكانية انضمام بقية دول الاتحاد الأوروبى إليها، لم ترضَ إيران عن النتائج، وأوضحت أنها غير كافية، وأمهلت الدول الأوروبية شهرين آخرين، أي حتى سبتمبر (أيلول) المقبل، من أجل إيجاد طريقة تعوّضها عن الخسائر المتلاحقة. في الوقت ذاته تعلن إيران رفضها أي دعوات أميركية للتفاوض قبل رفع العقوبات الاقتصاديَّة عنها.
وتهدفُ إيران من الضغط على الأطراف الأوروبية إلى إحداث انقسام وتوتر في العلاقات بين الأطراف الأوروبية الموقّعة على الاتفاق والولايات المتحدة، على اعتبار أن سياسة الضغط القصوى التي تبنتها إدارة ترمب هي التي دفعت إلى التوترات الحاليَّة بالشرق الأوسط، لكن يضاف إلى هذا الهدف أن إيران تريد من وراء ذلك ممارسة الضغط الأوروبي على الولايات المتحدة، حتى تخفف العقوبات، وتضمَّن النفط ضمن الآلية الأوروبية.
خطأ الرهان الإيراني على روسيا والصين
ما حدث هو انتقال التوتر إلى مربع العلاقات الإيرانيّة البريطانيّة، على إثر احتجاز البحريَّة البريطانيَّة ناقلة نفط إيرانية عند جبل طارق، قيل إنها كانت متجهة إلى سوريا. وكرد فعل إيراني، هدد الرئيس حسن روحاني وبعض قادة الحرس الثوري الإيراني بأن التصرف البريطاني لن يمر دون رد، وبالأمس تواترت التقارير الأميركية والبريطانية عن محاولة الزوارق الإيرانية اعتراض مرور ناقلة نفط بريطانيَّة عند مضيق هرمز بالخليج.
من المؤكد، أن إيران حاولت الاستيلاء على الناقلة البريطانيَّة للضغط على بريطانيا للإفراج عن الأخرى الإيرانية، فضلاً عن تعميق مزيدٍ من استعراضات القوة التي تمارسها لإثبات نفوذها بالخليج. الحادثان الأخيران يلوَّحان إلى انتقال توتر العلاقات بين إيران والأطراف الأوروبية لا العكس كما كانت تهدف إيران.
ومن ثم فإن إيران التي تتمسَّك بالاتفاق، ولا تريد القضاء عليه، إنما تريد من سياستها تلك إبراز قدرتها على إحداث التوتر في أكثر من جانب، وأن لديها من الأوراق ما يعزز موقفها، حتى تستطيع الحصول على أقصى ما يمكنها من المكاسب عند أي مفاوضات مستقبليّة مع الولايات المتحدة. وبالتالي أحد السيناريوهات المحتملة هو أن يؤدي التعنت الإيراني إلى التخفيض المستمر لالتزاماتها بالاتفاق بعد إعلانها التخصيب بنسبة 4.5%، بما يحدو بالوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة تسجيل تلك الإخلالات الإيرانية، وتقدّم تقريراً بما قد يؤدي إلى خروجها منها.
لكن، أحد السيناريوهات الأخرى هو التفاوض بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً أن الأطراف الأوروبية إذا كانت جادة في اتخاذ موقف تجاه إيران كان يمكنها تفعيل آلية تسوية النزاعات المنصوص عليها بالاتفاق، كما أن الإدارة الأميركية رغم توسّعها في العقوبات على إيران وفرض عقوبات على وكلائها بالمنطقة، مثل نواب البرلمان اللبناني المنضمين إلى حزب الله، فإن إعلان الولايات المتحدة منذ فترة احتمالات فرض عقوبات على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قبل فرض عقوبات عليه، وبالتالي يعتبر الإعلان نوعاً من التحذير وعدم الإضرار الفعلي ببعض الشخصيات الإيرانية، هذا أحد مؤشرات عدم الرغبة الأميركية في استمرار التصعيد ضد إيران.
لذا أياً ما كانت مآلات التوترات بين إيران والغرب والولايات المتحدة، فإنه يجب أن يكون هناك نوع من ممارسة الضغوط التي تدحض ما لدى إيران من أوراق ستوظّفها في أي مفاوضات، ويجب تفعيل الدورين العربي والخليجي، وممارسة الضغوط على إيران في مناطق تأثيرها كالعراق، والتلويح بأن أي اتفاق يجب أن يتضمن المصالح العربيّة، وإلا فإن العزلة الإقليمية التي يمكن أن تفرض من جانب تلك الدول يمكنها تقليل تأثير رفع العزلة الدوليّة عنها.
اندبندت العربي