ماذا يخفي اهتمام روسيا بوتين بالقارة السمراء؟

ماذا يخفي اهتمام روسيا بوتين بالقارة السمراء؟

على النقيض تماما مما كان عليه الحال خلال الحقبة السوفياتية، ظلت القارة الأفريقية لفترة طويلة غير مدرجة أو تكاد في سياسة روسيا الخارجية بعد نهاية الحرب الباردة، لكن ما إن بدأ الرئيس فلاديمير بوتين يكشف عن تطلعاته لاستعادة “المجد السوفياتي” وضمان حضور روسي أقوى على الساحة الدولية، حتى وجه الروس بوصلة اهتمامهم مجددا للقارة السمراء.

ولعل ما جعل هذا الخيار الإستراتيجي أكثر إلحاحا خاصة في السنوات الأخيرة، هو تزايد عزلة موسكو من قبل الغرب وتحديدا بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم في العام 2014، حيث عزز الروس حضورهم السياسي والعسكري في كل من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، ثم ما لبثوا أن ولوا اهتمامهم نحو القارة الأفريقية.

ورغم أن موارد روسيا أقل نسبيا من منافسيها -خاصة الولايات المتحدة والصين وفرنسا- من أجل تدعيم علاقاتها الأفريقية، فإنها لم تدخر جهدا لضمان موطئ قدم لها في القارة، معتمدة في ذلك بالأساس على إستراتيجية ثلاثية الأبعاد تراوح بين التجارة والدبلوماسية وعقود السلاح.

أنظمة مستهدفة
كما تركز موسكو في مقاربة توسيع نفوذها في أفريقيا على استهداف أنظمة لا تحظى بعلاقات جيدة مع الغرب أو غير راضية عنه، مثل زيمبابوي والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، وفق ما يرى الباحث تيري فيركلن من مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل.

ورغم أن تغير الديناميات الدولية غير الملامح “السوفياتية الطابع” للسياسة الروسية في أفريقيا، حيث لم تعد تتمحور حول نشر وسائل الردع النووية الإستراتيجية والفكر الماركسي، لكنها ما زالت تستخدم المفاهيم الأيديولوجية ذاتها، مثل الوحدة والقومية الأفريقيتين، من أجل نسج علاقة مصالح مع القادة والسياسيين الأفارقة.

ويرى موقع ستراتفور الأميركي المتخصص في تحليل السياسات الدولية أن اهتمام روسيا بالقارة السمراء يرتكز على أسس.

أحدها يتمثل في رفض الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية، وهو ما ظهر جليا في الدعم الروسي المطلق عسكريا وسياسيا لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وللرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.

ومن المنطلق ذاته، قدمت روسيا دعما ملموسا لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، فوستان أرشانج تواديرا، وللرئيس السوداني المعزول عمر البشير، ومن بعده للمجلس العسكري الانتقالي السوداني. كما دعمت نظام الرئيس روبرت موغابي في زيمبابوي، ونظام عبد الفتاح السيسي في مصر.

من ناحية أخرى، لا يُعد الحرص على استقرار القارة الأفريقية هما كبيرا بالنسبة لموسكو، لكن الأهم بالنسبة لها هو ضمان علاقات بديلة وتكاملية مع دول القارة وباقي أقطار العالم في ظل خلافها المتصاعد مع الغرب.

فقد نشرت مثلا متعاقدين عسكريين خاصين في جمهورية أفريقيا الوسطى لنقل الأسلحة وتدريب القوات الحكومية وتوفير الحماية الشخصية للرئيس.

وأعلنت في مايو/أيار الماضي مخططا لنشر خبراء تقنيين روس في جمهورية الكونغو الديموقراطية لتدريب قوات الجيش الكونغولي على التعامل مع المعدات العسكرية الروسية.

قاعدة لوجستية
وفي سبتمبر/أيلول 2018 كشفت عن إنشاء قاعدة لوجستية لها في إريتريا -بعد رفض جيبوتي السماح لها بإقامة قاعدة بحرية على شواطئها- مما سيمنحها منفذا مهما على البحر الأحمر.

كما دعمت سياسيا وعسكريا اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي استقبله بوتين في موسكو مطلع يونيو/حزيران الماضي.

ولها علاقات أمنية وتعاون عسكري مع النظام المصري، وتعد أحد أبرز مزودي الجزائر بالسلاح، حيث وقع الجانبان في العام 2014 اتفاقية بنحو مليار دولار تستخدم بموجبها الجزائر تقنيات ومكونات روسية في إنتاجها الحربي.

وتتنوع طبيعة التدخل الروسي في أفريقيا بين عمليات غير رسمية أو سرية أحيانا، وأخرى بشكل رسمي معلن. فقد كشفت صحيفة الغارديان البريطانية نقلا عن تسريبات من مصادر روسية، أن شبكة التعاملات الروسية غير الرسمية في أفريقيا تجري بإشراف من السياسي الروسي القريب من دوائر السلطة، إيفكيني بريكوزين.

وتقوم موسكو من خلال هذا الوسيط وعبر مؤسسات مرتبطة به بتوفير الضمانات الأمنية لشركة “فاغنر”، وهي شركة تعاقد عسكرية خاصة روسية، وبالتأثير على المؤسسات الإعلامية المحلية والمنظمات غير الحكومية، وتقديم المشورة مباشرة للزعماء الأفارقة. ويوفر هذا الهيكل غير الرسمي قدرا كبيرا من المرونة التي لا تتيحها القنوات الرسمية.

بالإضافة إلى هذا، تنخرط روسيا في اتصالات اقتصادية مباشرة مع الدول الأفريقية لا يمكن التقليل من أهميتها. فقد اتفقت مع المغرب على إنشاء منطقة حرة للتبادل التجاري بين البلدين، وتفاهمت مع جنوب أفريقيا لإنشاء مفاعلات نووية تستخدم لأغراض سلمية.

كما ألغت في العام 2009 حوالي 80% من ديونها الخارجية على القارة الأفريقية التي تبلغ نحو 25 مليار دولار.

ووقعت شركات روسية عقودا للتعاون في المجال المنجمي مع حكومات أفريقية، كما دخلت شركتا “أورالتشم”و”أورالكالي” الروسيتان المنتجتان للأسمدة للقطاع الزراعي في زيمبابوي وزامبيا، من خلال توقيع اتفاقيات مع حكومتي البلدين تتعلق بتوريد الأسمدة.

دعم عسكري
كما قام وزير الخارجية سيرغي لافروف بزيارة رسمية في مارس/آذار 2018 لكل من ناميبيا وأنغولا وموزمبيق وإثيوبيا وزيمبابوي، وقع خلالها سلسلة من الاتفاقيات لإنشاء مناطق اقتصادية والتنقيب عن المعادن مقابل الدعم العسكري والفني.

وتفكر روسيا في تدشين عقود مهمة للبنية التحتية بالقارة الأفريقية، في مقدمتها مخطط لإنشاء خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة تربط ساحل البحر الأحمر بغرب أفريقيا، وهو مشروع بقي معلقا لفترة طويلة نظرا لتكلفته الاقتصادية العالية.

وستشكل القمة الروسية الأفريقية المزمع عقدها في أكتوبر/تشرين الأول المقبل في سوتشي، إحدى المحطات المهمة في التعاون الاقتصادي الروسي الأفريقي، حيث يتوقع أن يحضرها قادة من جميع الدول الأفريقية تقريبا.

ولا تعد هذه القمة -بحسب مراقبين- مجرد التفاتة رمزية للقارة السمراء، بل ستوفر فرصة واقعية للغاية لروسيا والقادة الأفارقة لاستكشاف سبل تعاون اقتصادي مستدام يخدم المصالح الاقتصادية والسياسية لكل الأطراف.

الجزيرة