ضرب السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة السير كيم داروك الوتر الحساس لدى الرئيس الأميركي بعد ظهور رأيه بإدارة ترمب إلى العلن– من خلال تسريباتٍ لرسائل إلكترونية شرح فيها معاناة الإدارة من مشاكل عدم الكفاءة وعدم إيمانه بإمكانية إحراز أي تحسن في هذا الشأن. وفيما يُعزى تباهي ترمب وتفاخره عامة إلى رغبته بـ “تلميع صورته” أو الاستعراض من أجل كسب الشعبية، يعرف الرئيس تماماً أن الرأي الخافت غير المعلن في فشله يشبه توبيخ الأهل لطفلهم إذا قالوا له “خيّبت أملنا كثيراً”. وهي مقولة تخترق قلب الطفل المضطرب وتمسّ نفسيته لأنها تمسّ بالأساس عجزه عن إبهار الآخرين. ولا يسعى ترمب سوى إلى إبهار الآخرين مهما كلّف الأمر.
إن وجد أحدهم نفسه في موقع ضعف وإحباط وكان يفتقد إلى المصداقية والنزاهة وأي تقدير حقيقي لذاته، سوف يسعى عندئذ إلى إحباط الآخرين فيبتكر واقعاً مزيفاً حيث يفشلون هم وليس هو. وأكثر وسائل البقاء شيوعاً بين النرجسيين المضطربين في الحقيقة هي إسباغ خصالهم الكريهة على من ولّد فيهم هذا الشعور مقابل إظهار أنفسهم بصورة نبيلة وغالباً مزيّفة. فماذا كان رد ترمب إذاً على السير كيم؟
” لا يعجبنا السفير المخبول الذي فرضته المملكة المتحدة على الولايات المتحدة، فهو رجل غبي حقاً”
“…قيل لي إنه سفيه مغرور..”
“…أخبروه أنّه أصبح للولايات المتحدة الآن أفضل اقتصاد وأفضل قوات عسكرية في العالم…شكراً سيدي الرئيس!”
إعكس الضربة التي تلقيتها (عدم الكفاءة) ورمّم ذاتك وغرورك (أنظروا إلى إنجازاتي الواضحة). هذا السلوك النمطي لرئيس الولايات المتحدة الحالي وقد أصبحت الثقافة الأميركية نفسها مسبوغة به.
تشكل مقابلة الرئيس الحالي الشهيرة مع مجلة بلايبوي في تسعينيات القرن الماضي – حين كان وكيلا عقاريا صاعدا في نيويورك- دراسة نفسية ملفتة. فهو يتحدث فيها عن تفوق بلدان أخرى على أميركا من ناحية “الغرور الذاتي” ويعطي مثل اليابان وألمانيا والسعودية وكوريا الجنوبية ثم يطالب بنفخ الغرور الثقافي الجماعي في أميركا كي يضاهي البلدان الأخرى ويتغلب عليها. ويقول بأسلوبه المعهود “يجني ’حلفاؤنا‘ الملايين من خداعهم لنا”. ويتابع “كل ناجحٍ لديه أنا متضخمة” فيوضح أهمية التعبير بشكلٍ مدوٍّ ومتفاخر عن النجاح.
يلخّص دونالد تأرجحه بين الارتياب والتباهي شكلاً بالنجاح عندما يتكلم عن أبيه فريد ترمب فيقول “تدفعني غريزتي إلى الشكّ بالكثيرين. أعدّ هذه الصفة من بين إيجابيات حياتي وليس السلبيات… وتعلّمتها من فريد، الذي أدين له بالكثير…كان يستطيع أن يصبح رجلاً سعيداً ولكن الأمور سارت عكس ذلك.” يقتدي ترمب بأبيه في تكوين مفهومه عن القيادة: أي مثال الهيمنة وليس التعاطف. ويضيف في المقابلة “أردت أن أبرهن لأبي وغيره من الناس أنني قادر على النجاح وحدي. كان أبي قوياً وقاسياً، من صنف الرجال الجديّين ولكنه لم يضربني…فرض سلطته من خلال شخصيته المهيبة وليس بحدّ السيف.”
ما الذي يعنيه “فرض السلطة من خلال الشخصية المهيبة” فعلياً؟ من المظاهر الشائعة للعنف النفسي الإحجام عن إظهار العاطفة الذي يخلّف جراحاً عاطفية غير مرئية. وتعبير “لم يضربني” بالتحديد هو تعبير يستخدم في سياق الكثير من العلاقات التي تعاني من عنف نفسي وعاطفي خفي (أو مفضوح)، وهو وسيلة لإنكار الألم (لأن التعبير عن الألم في هذا السياق هو تعبير عن الضعف) وللإصرار على أنّ هذا الأسلوب هو ما صقل شخصيّة الشخص وحياته. كل ما يعتمل تحت السطح وكل ما يكتمه الشخص ويشعر به غير مهم مقابل ما يظهره. فكل ما يخفى غير موجود.
يحتاج هذا الوهم إلى التأكيد المتكرر على حقيقته. لطالما ارتبط تراكم الثروة بإنجازات إنسانية متنوعة فالجهد يؤدي بسرعة إلى تحصيل النفوذ مع كل ما يصاحبه. في أميركا القابعة تحت حكم ترمب يرتبط النجاح بمظاهر النجاح.
تنمّ أوهام العظمة التي يستمر ترمب بفرضها على المجتمع وعلى نفسه عن ألم واضح وملفت. فحاجته المحددة بأن يكون محط الاهتمام، أي اهتمام، تعيد إلى الأذهان صورة طفل يعاني من الصدمة. فلا طمأنينة ولا ذات- تستحقّ التقدير والحب إن لم تقترن بالإنجازات أو أقلّه بمظاهر النجاح. والمخاطر في كل مكان- لذلك، عوضاً عن تأسيس علاقات صحية قائمة على المساءلة والاحترام المتبادل، تكبر الرغبة في تحطيم كل الأحكام الاجتماعية والقواعد الأخلاقية لأنه يواجه باستمرار خطر تخلي الآخرين عنه. أما إيمانه الراسخ بضرورة الفوز مهما كان الثمن فهو خطاب من لا يستطيع أن يتخطى أية خسارة محتملة. ما أوهن من يصرّ على عدم إحساسه بألم الخسارة أبداً.
وينعكس هذا الضعف طبعاً على الذات. فكلما بدت الذات متضخمة وتنذر بالسوء كلما كان صلب الإنسان أضعف. فتعتبر أقل الضربات إذاً إهانات شخصية كبيرة تحتّم عليه الرد بسرعة وعنف من أجل التعافي منها والحفاظ على وهم القوة والنفوذ.
وهذا تبريرٌ إضافي لتعبير ترمب بشكل متكرر عن انبهاره بالأنظمة المستبدة (يتطرق في مقابلته مع بلايبوي إلى أحداث ميدان تيان أنمين وإلى “القوة” التي أظهرتها الحكومة رغم وحشيتها) فلا يجب أن نتفاجئ بكلامه إذاً. هو يصون ذاته من خلال قدرته على سحق كل من يهدده: لذلك يتناسب اعجابه بالمستبدين والطغاة مع رغبته بتحقيق السيطرة المطلقة التي لن يملكها أبداً في داخله.
أمّا حركاته المتنمّرة -عبر التغريدات وحشد الناس والطرق الحاذقة بعض الشيء في الحثّ على العنف والدعوة إلى هيمنة العرق الأبيض- فهي الأدوات التي يستخدمها للتشبث قدر الإمكان بمثال السيطرة والنفوذ الذي نتناقله ظلماً منذ تأسيس بلدنا. هو تعبيرٌ عن الخوف الخبيث والسامّ من فقدان السيطرة في حال لم تكن ظاهرة للعيان ويقف وراء الثغرة الأكبر التي تنخر الذات الإنسانية والسلطات على حد سواء: وهي الضعف.
ليس ترمب ظاهرة من هذا الزمن فحسب بل هو التجسيد الحي لثقافة الصدمة والسيطرة. وهو المثال الحي على الرأسمالية التي تفضّل جني الأرباح على مصلحة الناس. تحاكي ثقافتنا نشأة دونالد من حيث قيامها على ضرورة إبراز القيمة الذاتية من خلال النجاح العملي. فقيمة الإنسان ترتبط ارتباطاً مباشراً بقدرته على إثباتها والفوز بها وإبرازها. أميركا دونالد ترمب هي بلاد يستقل فيها داعية ديني تلفزيوني طائرته الخاصة ليأتي إليك ويصرّ أن تشتري الخلاص الأبدي. أميركا دونالد ترمب هي تلك البلاد المتيّمة بالصناعة والربح المادي لدرجة تجعلها “تشك” في تغير المناخ. هي بلاد لا تبالي بتعرّض أطفالنا إلى إطلاق النار لأنها تعطي الشعور بالأمان الأولوية وتقدّمه على واقع أطفال يكابدون المخاطر خلال ارتيادهم المدرسة. أميركا هذه تطلق على نفسها لقب أعظم أمة في العالم فيما تفشل من جهة أخرى في توفير الحقوق الإنسانية الأساسية. أميركا دونالد ترمب بلاد معنيّة بالصورة وليس بالمضمون وهي مرفوضة. من واجبنا أن نتخيل أكثر من هذا.
إنّ الخيال لعنة بالنسبة للسلطة. فهو يصرّ على وجود مستقبل أفضل في أعقاب السلطة الحالية، والقدرة على تصوّر بلد أفضل وعالم أفضل هي السبيل لتفكيك أميركا ترمب. يتطلب هذا التصوّر تأملاً شجاعاً ومؤلماً في الذات، غالباً من خلال الاستماع إلى الأصوات التي تعاني من التجاهل والألم. وللإصغاء إلى هذه الأصوات أن يخفت ضجيج خطاب ترمب الوقح الذي درج المتنمرون والمعتدون على استخدامه لإثارة الرعب في قلوب الناس وإخضاعهم.
يرفض الخيال أن يكبّله الواقع. في المقابل، يبقى الحفاظ على الوهم مهما كلف الأمر المحرّك الأساسي للّذين ينسجون واقعهم من خيوط واهنة قوامها التلميحات والأكاذيب والمظاهر والافتتان الأعمى بالآخرين. ولهذا يستخدم الرئيس الألقاب- فهو متمرّس كأي متنمّر في المدرسة في إيجاد نقاط ضعف أعدائه، وإطلاق لقب كاريكاتوري عليهم يضخّم عيوبهم فيما يلمّح في الآن ذاته إلى وجود بعض الحقيقة في هذا التصوير أملاً بأن يلتصق بصورتهم ويؤذيهم فيبعدهم عن ذاته الهشّة.
لو تخيلنا ترمب في موقع المعتدي والشعب في موقع الضحية نستطيع أن نتبيّن نمط الدمار الذي يعود إلى طفولته حين كان يتوق لنيل الرضى ويفشل في كل محاولاته. فلا يرضيه سوى الخضوع التام. لأنّ المسألة لا تتعلق بنا نحن بل تتعلق به هو.
كيف نحارب النرجسية والمعتدين المتعطشين للسلطة؟ نتخيل سبيل نجاة منهم، ونتصوّر حياة مختلفة، ثم نسعى إليها بصدق ونزاهة بمساعدة كل من حولنا. نصبح شفافين ونعترف بفشلنا ونشير إلى الفظائع التي ارتكبناها ثم نطلب المساعدة.
يعمل الخيال على تعرية الواقع الكاذب الذي يروّج له المعتدي لذلك علينا الاجتماع بانتظام ومحبة من أجل تخيل عالم نعرّي فيه ترمب، ذاك الطاووس العاجز ونظهر أنّه: “فريد في اختلاله” و”غير كفء” “وأخرق” في طريقه نحو هاوية مخزية.
هذا العمل ليس سهلاً وفي بعض الأحيان لا يبدو ممكناً ولكنه ضروري. فعالمنا يعتمد على تفكيك السلطة وسحب النفوذ من ثقافة خطيرة وغاضبة مهووسة بنفسها كانت السبب في صعود نجم هذا الرجل الكريه والأخرق والمتخبط نفسياً.
اندبندت