تحت خيمتها الضيقة ذات الإضاءة الخافتة، تمرر ليلى شمو قطعة قماش زهرية اللون بمهارة تحت إبرة ماكينة الخياطة، لتخيط طرفيها وتصنع منهما قطعة ملابس، تتمكن بأجرتها من تأمين قوت لأسرتها التي اضطهدها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في معقل الأيزيديين بشمال غرب العراق.وبينما تقوم شمو بعملها في مخيم خانكه للنازحين في شمال غرب العراق، تلقي بين الحين والآخر نظرة على اسم زوجها، كيرو، الموشوم على يدها اليسرى. لا يزال زوجها في عداد المفقودين بعد خمس سنوات من اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لمسقط رأسها في سنجار.
في ذلك الوقت، أقدم مقاتلو التنظيم على قتل الرجال الأيزيديين بشكل جماعي أو خطفهم، وتجنيد الأطفال كمقاتلين، وبيع النساء في سوق النخاسة واتخاذهن سبايا واستعبادهن جنسيا، فيما فر من نجا إلى مخيمات النزوح البائسة.
لا يزال هؤلاء غير قادرين على العودة إلى سنجار، حيث دمر تنظيم الدولة “داعش” الحقول والبنية التحتية الزراعية التي كانت العمود الفقري لاقتصاد هذه الأقلية العرقية، التي كان الجهاديون يعتبرون أبناءها “كفارا”.
على غرار شمو، تسلمت النساء اللواتي حرمن من معيل لعائلاتهن زمام الأمور في عائلاتهن، في ظل دعم ضئيل من الدولة، وكسرن بذلك أحد المحرمات في هذا المجتمع الصغير المغلق.
وتقوم شمو ببيع فساتين، وملابس لأطفال حديثي الولادة في المخيم، وأغطية وسادات مطرزة، مقابل دولارات قليلة. تستخدم آلة الخياطة وقطع قماش تبرعت بها منظمة “خالصا” الخيرية غير الحكومية التابعة لطائفة السيخ.
وتقول شمو، الأم، السبية السابقة لدى التنظيم المتطرف: “لو كنت بقيت بلا عمل، لكان فكري مأخوذا طيلة الوقت بما فعله داعش بي، ولماذا زوجي ليس هنا، وأين طفلَي، وأقاربي التسعة الذين ما زالوا في قبضة الدواعش”.
وتضيف: “بفضل مدخول آلة الخياطة، أعتني بابني وبنتَي، وبأختي وزوجها أيضا”.
خطفت شمو بينما كانت حاملا في شهرها السابع، وأنجبت في الأسر، ثم فصلت عن زوجها وأطفالها.
“في قلبي وعلى يدي”
أطلق سراحها مع ثلاثة من أطفالها، لكن زوجها واثنين من أولادها وأحباء آخرين، ما زالوا في عداد المفقودين.
وتقول شمو: “هم دائما في قلبي. مع هذه الوشوم، هم على يدي أيضا. أراهم حين أعمل”.
وتستخدم شمو في عملها أقمشة خاصة بألوان زاهية وجذابة، خصوصا للفتيات اللواتي أجبرهن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على ارتداء النقاب الأسود من الرأس إلى أخمص القدمين.
وتقول: “إن شاء الله عندما تعود ابنتي، سألبسها ألوانا زاهية أيضا بدلا من الملابس السوداء”، إلا أنها هي نفسها تصر على أنها ستستمر في ارتداء اللون الأسود حتى يعود كيرو إلى المنزل “لأنني ما زلت في حالة حداد”.
غياب الرجال واضح في مخيم خانكه. على مدى قرون عدة وفي جميع أنحاء العالم، تركت الحروب مجتمعات دون عمال رجال، وملأت النساء الفراغ. لكن انعكاس الدور له خصوصية كبيرة في مجتمع الأيزيديين المحافظ.
وتقول خبيرة الماكياج الثلاثينية في مخيم خانكه، أسيمة: “في السابق، كان من المعيب في سنجار أن تعمل النساء. أما الآن، فأصبح العكس. النساء يعملن أكثر من الرجال”.
عندما اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية مسقط رأسها في العام 2014، قضت عائلة أسيمة نحو أسبوعين في العراء على جبل سنجار، قبل فتح ممر آمن للأيزيديين للفرار.
ومنذ ذاك الحين، تعيش أسيمة في مخيم خانكه، حيث افتتحت قبل شهرين فقط صالون تجميل، بمساعدة منظمة “جيندا” المحلية التي زودتها بمستلزمات الماكياج.
وتقول: “عائلتي كانت في حاجة إلى معيل”.
مدخول وهروب
من أصل 550 ألف أيزيدي في العراق قبل العام 2014، هاجر نحو مئة ألف شخص إلى الخارج، ولا يزال نحو 360 ألفا يعيشون اليوم في مخيمات النازحين بشمال غرب العراق، ولم يتمكن سوى بضعة آلاف فقط من العودة إلى سنجار.
ومن أصل 3300 أيزيدي تحرروا من تنظيم الدولة الإسلامية على مدى السنوات الخمس الماضية، عشرة في المئة فقط هم من الرجال. أما الغالبية فمن النساء والفتيات اللواتي أجبرهن التنظيم على “العبودية الجنسية”.
وبموجب العقيدة الأيزيدية، تصبح النساء، وإن مستعبدات، منبوذات من الطائفة إن تزوجن من خارجها.
لكن القرار التاريخي الذي أصدره زعيم الطائفة بابا شيخ في عام 2014، طالب بقبول النساء الناجيات العائدات ضمن الأقلية.
وطلبت أسيمة عدم استخدام اسمها الكامل وصورتها في ظل مجتمع لا يزال مغلقا إلى حد كبير، مشيرة إلى أن أسرتها لا تزال متحفظة على مسألة عملها بمفردها.
وتتواجد حوالي عشر نساء في صالونها تحضيرا لحفل زفاف، تتبادلن الأحاديث بصوت عال مسموع رغم صوت الموسيقى الكردية في الخلفية وصوت مولد الكهرباء الصاخب في الخارج.
وتتقاضى أسيمة نحو ثمانية دولارات على الماكياج، فيما يصل تصفيف الشعر إلى 35 دولارا إذا كان خاصا بحفل زفاف، إذ يحتاج وقتا أطول.
ويتحول الصالون الى أكثر من مكان عمل، فتأتي النساء لتمضية وقت استراحة من حياة الخيام أو لمشاركة قصص عن الفرار من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وتقول أسيمة: “هذا مكان يمكن للفتيات أن يهربن إليه”.