أصبحت إيران تتجاهل تدريجياً القيود التي فرضها عليها الاتفاق النووي – المعروف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة» – متخطيةً حدود اليورانيوم منخفض التخصيب المتفق عليها والبالغة 300 كيلوغرام حيث أصبحت تخصّب اليوم بنسبة تتجاوز 3.67 في المائة المسموح بها بموجب شروط الاتفاق. وبالتالي، يجب ألا يتفاجأ المرء إذا بدأت باستخدام أجهزة الطرد المركزي المتقدمة الخاصة بها أو باشرت بتشغيل أكثر من 5061 جهاز طرد مركزي أقدم يُسمح لها بتخصيبها. وصحيح أن إيران لا تتسارع في إنتاج مواد صالحة للاستخدام في الأسلحة النووية، ولكنها من دون شكّ تقلّص الوقت الذي ستحتاج إليه من أجل التمتع بقدرة اختراق العتبة النووية.
إن قرار إدارة ترامب القاضي بإنهاء الإعفاءات التي قدمتها إلى ثماني دول من أجل مواصلة شراء النفط الإيراني والمتخذ في أواخر نيسان/أبريل، يضع الإيرانيين في مأزق حقيقي. فقد انخفضت صادرات نفط البلاد من مليون برميل في اليوم تقريباً إلى حوالي 300 ألف برميل. وقد فاقمت خسارة الإيرادات الناتجة عن هذه الخطوة الضغوط الاقتصادية الكبيرة أساساً الناجمة عن إعادة فرض العقوبات الأمريكية – وواقع شعور الشركات المتعددة الجنسيات بالحاجة إلى احترام العقوبات خشية فقدان قدرتها على ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة أو الحصول على تمويل من المصارف الأمريكية.
وتردّ إيران الآن على سياسة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها إدارة ترامب من خلال ممارسة ضغوط قصوى على دونالد ترامب نفسه. ويُعتبر تقليص الوقت للوصول إلى قدرة اختراق العتبة النووية – والتشديد على عدم قدرة إدارة ترامب على منعها – إحدى الوسائل المتبعة من قبل إيران لزيادة الضغوط. كما ترفع طهران عتبة أعمالها التهديدية في المنطقة. إذ يتم استهداف المطارات المدنية وخطوط أنابيب النفط ومحطات ضخ النفط السعودية كل بضعة أيام من قبل الحوثيين انطلاقاً من اليمن بواسطة طائرات بدون طيار وصواريخ مزوّدة من إيران؛ وقد تمّ تخريب ست سفن في حادثتين مختلفتين بواسطة ألغام مغناطيسية جنوب مضيق هرمز؛ كما تمّ ضرب قواعد في العراق تتواجد فيها قوات أمريكية بصواريخ أطلقتها ميليشيات شيعية مسلحة ومدربة من قبل الإيرانيين؛ وأخبرني ضباط أمن إسرائيليون أن حركة «الجهاد الإسلامي [الفلسطيني]» – المدعومة بدورها من إيران – تحاول جاهدة إثارة صراع مع إسرائيل في غزة؛ وبالطبع، أسقط الإيرانيون طائرة أمريكية بدون طيار.
وقبل أسبوع من قرار البيت الأبيض بشأن الإعفاءات، أبلغت وزارة الخارجية الأمريكية الدول [المعنية] باستمرار الإعفاءات. وفضّلت الوزارة الإبقاء على الإعفاءات لأنها أدركت أنها تحصل على أفضل الميزات من الجانبين: إيران ترزح تحت الضغوط وسط تعثّر اقتصادها، بينما كان الإيرانيون ملتزمين بتعهداتهم في إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة» – وهو أمر أراح الإدارة الأمريكية من عبء التفكير فيما يتعيّن عليها فعله إذا تخلى الإيرانيون فعلياً عن الاتفاق وبدأوا بتقليص زمن اختراق العتبة النووية.
وجراء إبطال الإعفاءات، اعتبر الإيرانيون أن عليهم أن يُظهروا لترامب وللأوروبيين ولأصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة بأنه بإمكانهم أيضاً فرض ثمن وأنهم لن يذعنوا ببساطة للضغوط الأمريكية. وفي هذا السياق، أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي في خطاب ألقاه في 29 أيار/مايو أن الولايات المتحدة كانت تحاول الضغط على الجمهورية الإسلامية من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات بموجب شروط واهنة. وقال إن هذا الأمر لن يحصل؛ وبدلاً من ذلك أوضح أن إيران ستستغل “ميزتها” – ومن الواضح أنها تفعل ذلك.
ويبدو أن كل جانب يعمل على افتراض أن الضغوط المتنامية سترغم الجانب الآخر على التنازل. وبالطبع، فإن الخطر هو سوء التقدير الذي ينتج عنه صراع حتى لو لم يرغب به الطرفان. وعلى افتراض أنه يمكن تجنّب الصراع، يقول الرئيس ووزير الخارجية ونائب وزير الخارجية الإيرانيين إنهم سيصلحون مخالفاتهم لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» إذا عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي أو إذا قدّم الأوروبيون مزايا اقتصادية. ولا يبدو أياً من الاحتمالين مرجحاً – لكن الرئيس الإيراني حسن روحاني وافق على النظر في دعوة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إجراء مفاوضات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سينجح الأوروبيون في لعب دور الوسيط بين الإيرانيين وترامب؟ قد يبدأ الأوروبيون بالتوسط في تفاهم يعود بموجبه الإيرانيون إلى الامتثال لشروط الاتفاق النووي ويساهمون في تهدئة الوضع في المنطقة مقابل إعادة إدارة ترامب الإعفاءات التي أبطلتها في نيسان/أبريل.
لكنّ إدارة ترامب لا تملك جواباً فعلياً للضغوط القصوى الإيرانية، ومن الواضح أنها لا ترغب في الصراع. وقد يكون ذلك كافياً لإقناع ترامب بقبول مثل هذا التفاهم. وفي اليابان، نقل الرئيس الأمريكي نيّته الأساسية بشأن إيران، قائلاً إنه غير مهتم بتغيير النظام بل فقط بـ”عدم وجود أسلحة نووية”. ويتمثل معيار ترامب الوحيد والفعلي في تقديم أداء أفضل من باراك أوباما، وهذا يعني على الأرجح تمديد أحكام “النفاذ الموقوت” (“بنود الغروب”) على القيود المفروضة على أنشطة التخصيب الإيرانية لمدة إضافية تتراوح بين 10 و15 عاماً لغاية 2040 أو 2045. غير أن الإيرانيين لن يقدّموا مثل هذا التنازل من دون مقابل؛ وقد يطالبون ليس فقط بإنهاء العقوبات المفروضة على الحدّ من النشاط النووي الإيراني، بل بمجموعة أوسع من العقوبات أيضاً.
تجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران نتيجة دعمها للإرهاب وانتهاكاتها لحقوق الإنسان كما لا ينبغي رفعها، بالنظر إلى أعمال طهران وسياساتها المستمرة. فضلاً عن ذلك، من المرّجح ألا تكون «خطة العمل الشاملة المشتركة 2.0» أكثر استدامة من نسختها الأولى إذا لم تغيّر إيران سلوكها في المنطقة. وبالتالي، من المُستبعد وجود أي صفقة كبيرة، يمكنها بشكل سحري تخطي كافة الخلافات الأمريكية-الإيرانية.
غير أنه لا بدّ من التوصل إلى تسوية واقعية وقابلة للتحقيق. وقد توافق إيران على تمديد أحكام “النفاذ الموقوت” لمدة تتراوح بين 10 و 15 عاماً، وكذلك على الحدّ من استخدام القذائف والصواريخ والبنية التحتية العسكرية في سوريا ولبنان، مقلّصةً بذلك من احتمال اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقاً بين إسرائيل وإيران. وفي المقابل، قد ترفع الولايات المتحدة العقوبات النووية وتستحدث آلية ذات أغراض محددة تسمح للشركات الأمريكية والدولية بممارسة أعمال تجارية في إيران طالما تلتزم طهران بمجموعة صارمة من القواعد. صحيح أن هذه الآلية لن تمنح كل جانب جلّ ما يرغب به، لكن نتائجها للجانبين ستكون أفضل من المأزق الحالي.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن إيران تفضّل تصعيد الضغوط التي تمارسها على الولايات المتحدة. وطالما لا يخشى المرشد الأعلى من أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات عسكرية أو أن تؤدي الضغوط الاقتصادية إلى تعريض السلام المحلي للخطر، فمن غير المرجح أن يقبل بأي اتفاق في أي وقت قريب. وللمفارقة، يعني ذلك أن احتمال اندلاع صراع لا يرغب به أي من الطرفين فعلياً لا يزال مرتفعاً – بما يكفي ليحضّ الأوروبيين على بذل كل ما في وسعهم لإقناع كل جانب بتهدئة الوضع والتوصّل إلى تفاهم جديد.