انشقاق مؤسسي العدالة والتنمية.. لماذا رفض أردوغان تقديم تنازلات للتيار الإصلاحي؟

انشقاق مؤسسي العدالة والتنمية.. لماذا رفض أردوغان تقديم تنازلات للتيار الإصلاحي؟


تتوالي الأنباء باستقالة عدد من مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، حيث أعلن الوزير السابق علي باباجان عن نيته إنشاء حزب جديد بعد انسداد الأفق السياسي داخل الحزب، وربما ينضم إليه قريبا عبد الله جول الرئيس السابق، ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود، الأمر الذي دفع عدد من المراقبين السياسيين لاتهام أردوغان بتصلب مواقفه مع المعارضين داخل الحزب. إلا أن المتابع لتطور سياسات الحزب الحاكم على الساحتين الداخلية والخارجية كان يتوقع ذلك الانشقاق منذ عدة سنوات، خصوصا منذ عام 2014 وهو العام الذي بدأت تركيا تدفع ثمن مواقفها السياسية المساندة للربيع العربي.

استراتيجية جديدة لأردوغان
بعد الانقلاب العسكري على حكومة أربكان عام 1997 وما أعقبه من حل حزب الرفاه، ثم عزل أردوغان من منصبه كعمدة لإسطنبول عام 1998، وسجنه في العام التالي، كل تلك الأحداث دفعت أردوغان لمحاولة إقناع أربكان للتحلي بمزيد من المرونة السياسية وتعديل الدفه قليلا إلى يمين الوسط، وتأجيل معركة الهوية إلى حين التمكن من الحكم بشكل كامل وهزيمة الدولة العميقة، حيث ثبت لأردوغان من خلال تجربته كعمده لإسطنبول أن تحقيق إنجازات على أرض الواقع وما يتبعه من زيادة للشعبية ليس كافيا لهزيمة الدولة العميقة، المتمثلة في القضاء والجيش والإعلام.

بعد نجاح أردوغان في إضعاف نفوذ الدولة العميقة، بدأ يكشف تدريجيا عن وجهه الإسلامي، ومع قيام ثورات الربيع العربي قام بدعمها إعلاميا ورحب بوصول الإسلاميين للحكم، كما بدأ مشروعه لمحو الأمية الإسلامية للمجتمع التركي
لم يقتنع تيار أربكان بالتخلي عن بعض الثوابت وتأجيل معركة الهوية، مما دفع أردوغان وتياره التجديدي إلى دخول الإنتخابات الداخلية على رئاسة حزب الفضيلة، إلا أن المرشح الموالي لأربكان رجائي كوتان نجح في هزيمة عبدالله جول المرشح الموالي لأردوغان بفارق بسيط، وكما توقع أردوغان، أمرت المحكمة الدستورية بحل حزب الفضيلة في يونيو 2001 بدعوي مخالفته لمبادئ العلمانية للدولة بالرغم من كونه الحزب الثالث في تركيا، فقام أردوغان وجول في أغسطس من نفس العام بتدشين حزب العدالة والتنمية، وكان الحزب يصنف بأنه محافظ ومحسوب على تيار يمين الوسط، مما ساهم في ضم أعضاء منشقين من حزبي الطريق القويم والوطن الأم، ومن الجدير بالذكر أن أحزاب يمين الوسط مثل العدالة والطريق القويم والوطن الأم هي أكثر من فازت في الإنتخابات البرلمانية منذ عهد مندريس في ظل الحكم العلماني.

انتخابات مبكرة ونتائج مبهرة
خدمت الظروف السياسية والاقتصادية حزب أردوغان كثيرا، حيث حدثت أزمة اقتصادية في البلاد، ونشب على إثرها خلاف سياسي كبير بين رئيس الجمهورية وقتها، أحمد نجدت سيزر ورئيس الوزراء بولند أجاويد، واختلف الطرفان على مدى صلاحيات كل منهما في حل الأزمة، وانتقلت أخبار الأزمة سريعا إلى الإعلام مما ساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سوق المال، الأمر الذي أدى إلى تقديم موعد الانتخابات 18 شهر. ساهمت إنجازات أردوغان في مدينة إسطنبول، إلى فوزه بثلث مقاعد البرلمان، وبسبب عدم تخطي معظم الأحزاب لحاجز العشرة في المائة الانتخابي، تمكن حزب العدالة والتنمية من حصد ثلث أخر من مقاعد البرلمان وقام من تشكيل الحكومة منفردا.

نجحت حكومة أردوغان في انتشال البلاد من براثن الأزمة الاقتصادية، وقدم أروغان تطمينات للغرب بحفاظه على علمانية الدولة، كما طالب أردوغان الاتحاد الأوروبي بسرعة إدماج تركيا في الاتحاد الجمركي ليستفيد من السوق الأوروبية، وهو ما دفع أوروبا إلى مطالبة تركيا بتنفيذ حزمة إصلاحات تشريعية وسياسية تتضمن مزيد من الشفافية القضائية فضلا عن إبعاد الجيش عن التدخل في الشؤون السياسية، وهو ما كان يرنو إلى أردوغان بتلك المناورة السياسية، حيث كان يرغب في إيجاد مبرر سياسي لتقليم أظافر الدولة العميقة والتخلص من قبضة الجيش على الدولاب السياسي للدولة، وتم تقديم تلك الإصلاحات للمجتمع التركي بصفتها جزء من حزمة الإصلاحات المطلوبة لتأهيل البلاد للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ساعدت مرونة أردوغان السياسية في تأجيل معركة الهوية والتعايش مع العلمانية لفترة، إلى جلب الدعم الأمريكي والأوروبي له في معاركه لتعديل الدستور، حيث نجح في إبعاد الجيش تدريجيا عن التدخل في الشؤون السياسية والإشراف على التعليم، بدون أن يثير تلك التعديلات قلق القوي الغربية، حيث نجح أردوغان في إيصال انطباع أن تدينه الشخصي لا يتعارض مع علمانية الدولة، الأمر الذي أعجب به الرئيس الأمريكي حينها بوش الأبن وطلب بتكرار تجربة أردوغان في البلاد العربية عبر إدماج الجماعات الإسلامية في الحكم في مصر وفلسطين وباقي الدول العربية، في محاولة لإدماجهم في المنظومة العلمانية، وهو ما حدث مع حماس والإخوان المسلمين في عام 2005.

أردوغان يكشف وجهه الإسلامي
بعد نجاح أردوغان في إضعاف نفوذ الدولة العميقة، بدأ يكشف تدريجيا عن وجهه الإسلامي، ومع قيام ثورات الربيع العربي قام بدعمها إعلاميا ورحب بوصول الإسلاميين للحكم، كما بدأ مشروعه لمحو الأمية الإسلامية للمجتمع التركي عبر التوسع في بناء مدارس إمام وخطيب الإسلامية منذ عام 2012، الأمر الذي أغضب الغرب بعد وضوح توجهه الإسلامي، وقابلته الدولة العميقة بمحاولة القبض على مدير المخابرات وكاتم أسراره حاكان فيدان في فبراير 2012، كما وحاولت جماعة جولن تدبيرإنقلاب قضائي أواخر 2013، إلا أنه قد نجح في إحباط تلك المخططات.

نهاية سياسة صفر مشاكل
دعم أحمد داوود أوغلو وعبد الله جول وعلي باباجان سياسة صفر مشاكل، التي ساهمت في استمرار نمو الاقتصاد التركي لعشر سنوات بطريقة مضطردة، وحاولوا إقناع أردوغان بالإبقاء على تلك السياسة تجنب الدخول في صدام مع الغرب، إلا أن فلسفة أردوغان في الحكم كانت تعتمد على بناء نهضة اقتصادية بالتوازي مع طموح سياسي لكسر الهيمنة الغربية على الشعوب المسلمة، فلم يكتفي ببناء اقتصاد قوي، لكنه توسع في علاقاته مع البلاد العربية والإسلامية، ساعيا لتحقيق حلم أربكان وبناء مشروع الدول الثماني الإسلامية.

بدأ الشقاق بين رئيس الجمهوية وقتها عبد الله جول وأردوغان عام 2014، عندما قام جول بتهنئة السيسي بفوزه في الرئاسة، حيث يري جول وفريقه أن الاستمرار في سياسة صفر مشاكل وعدم معاداه الغرب وأتباعه هو الطريق الأسلم والآمن للحكم فيما كان موقف أردوغان هو الرفض الشديد الانقلاب العسكري في مصر. وفي سياق آخر نجح الغرب بتفتيت الكتلة الانتخابية لأردوغان في محاولة لإسقاطه، فبالرغم من جهود أردوغان لحل الأزمة الكردية عبر دعم حقوق الأكراد الثقافية والاجتماعية، إلا أن الغرب قام بدعم حزب كردي ذو نزعة انفصالية، ونجح ذلك الحزب في إقتطاع نسبة كبيرة من أصوات الأكراد معتمدا على المظلومية الكردية التاريخية، مما ترتب عليه فشل حزب أردوغان في تشكيل حكومة عقب انتخابات يونيو 2015.

بداية الشقاق
بدأت بوادر الانشقاق في الحزب تظهر عقب انتخابات يونيو 2015، نتيجة تحالف أردوغان مع حزب الحركة القومية المناوئ للغرب، حيث قام أردوغان عقب خسارته لأصوات الأكراد بمناورة سياسية تهدف لحشد القوميين الأتراك للتصويت له، في محاولة لتشكيل الحكومة منفردا، وتجنب تشكيل حكومة إئتلافية بين أحزاب متنافرة، بينما كان يدعم داوود أوغلو تشكيل حكومة إئتلافية، الأمر الذي ساهم في تزايد الشقاق بينهما، بينما تقاربت رؤي أردوغان ودولت بهجتلي رئيس حزب الحركة القومية، في ضرورة التصدي للتنظيم الموازي والبي كا كا، فضلا عن عدم التعويل على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتوجه شرقا نحو الصين وروسيا وإيران، فيما كان يعول أوغلو وجول على استمرار التحالف مع الغرب.

هل خدعهم أردوغان؟
كان من الطبيعي أن يدرك جول ورفاقه الرافضين للمناكفة السياسية مع الغرب، أن التصادم قادم لا محالة، وأن تأجيل أردوغان لمعركة الهوية كان بسبب عدم اكتمال قوته الضاربة، كما أن رؤيتهم النهضوية القاصرة على بناء نهضة اقتصادية، لا تتوافق مع رؤية أردوغان الشاملة في بناء دولة قوية سياسيا واقتصاديا تدافع عن الشعوب الإسلامية وقادرة على التصدي لأطماع الغرب، وهو يؤدي لا محالة إلى الصدام مع القوي الغربية الطامعة في استمرار هيمنتها على ثروات ومقدرات الشعوب المسلمة.

توقعات بالفشل
طوال حكم العدالة والتنمية، فشلت كل الأحزاب المنبثقة من رحم التيار الإسلامي أو المحافظ في منافسة أردوغان، مثل الحزب الديموقراطي بقيادة سليمان صويلو والمحسوب على يمين الوسط في عام 2009، أو حزب صوت الشعب بقيادة نعمان كورتولموش الذي انشق عن حزب السعادة عام 2010، وانتهي بهم الحال إلى الانضمام لحزب العدالة والتنمية. تري هل يكسر حزب باباجان وجول تلك القاعدة، ويستطيعوا إقتطاع جزء من شعبية أردوغان، أم يفشل كما فشل قبله عبد اللطيف شنر، الذي استقال من العدالة والتنمية عام 2007 وأنشأ حزب تركيا الذي أصبح يضرب به المثل في الفشل، وانتهي به الحال للإنضمام لحزب الشعب الجمهوري العلماني.

الجزيرة