لم تنته الأزمة بين الولايات المتحدة وإيران، بل هي بالكاد بدأت. إن أجواء التصعيد مستمرة، فبمجرد استمرار العقوبات ومنع تصدير النفط الإيراني سوف يفرض على المنطقة والعلاقات الدولية أنواعاً متعددة من التصعيد. فإيران لن تهدأ في المرحلة القادمة لأنها لن تقبل بعقوبات تخنقها، بل ستبقى تحاول وضع الولايات المتحدة في أجواء من التوتر بهدف الضغط عليها. إن كل ضغط على إيران سيقابله ضغط مضاد باتجاه الولايات المتحدة وباتجاه التصدير النفطي عبر مضيق هرمز، كما سيقابله تصعيد في حرب اليمن وأعمال مسلحة في منطقة الخليج كتلك التي وقعت للسفن في الإمارات. وهذا يعني أن آفاق التوتر مستمرة وقابلة للتصعيد طالما أسس الصراع حول الاتفاق النووي والعقوبات على إيران مستمرة.
إن تعامل إيران القديم مع الأزمات يمثل نموذجاً لكيفية تصرفها في المرحلة القادمة، إذ يتضح بأن إيران ستقبل على التصعيد المتدرج القادر على استغلال الخلاف بين المواقف العالمية والإقليمية والموقف الأمريكي. هذا التصعيد المتدرج لن يوصل الأمور للحرب، لكنه سيبقي التوترات، فتارة ستقع أعمال عسكرية مبهمة، وتارة ستخطف سفينة، وتارة سيصعد الحوثيين الوضع. هذه «المشاغبات» سوف تؤثر وتوتر. لكن أكبر المسائل هي تلك التي تتعلق بالتخصيب النووي وتشغيل آلات الطرد المركزي. هذا التصعيد هو أكثر ما يستفز الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو يمثل عنصر ضغط بالاتجاه المعاكس على الولايات المتحدة.
بنفس الوقت، يجب ملاحظة أن الرئيس ترامب لا يريد الحرب ولا يريد مواجهات تؤثر على إمكانية إعادة انتخابه، فهذا الرئيس جاء تحت شعار إيقاف الحروب، وهو لهذا لا يريد التورط في حرب تكلفه وتؤدي إلى خسارته في الانتخابات القادمة في العام 2020. ما تقوم به إيران في جانب من تكتيكها هو استجداء لمغامرة عسكرية أمريكية (محدودة) تضع الرئيس ترامب في موقف صعب مع الأجهزة الأمريكية الرسمية ومع الكونغرس. لهذا تراهن إيران على قدرة التصعيد العسكري المحدود والمدروس والمليء بالرسائل السياسية على تغير كل المعادلات حول الاتفاق النووي والعقوبات.
إن الصراع الأمريكي الإيراني في هذه المرحلة يختزل بالمسألة النووية، وإن نجحت إيران في التفاوض لرفع العقوبات وقدمت للرئيس ترامب اتفاقاً أفضل واتفاقاً يستطيع أن يتباهى ببعض أجزائه، تكون إيران قد تجاوزت هذه المرحلة
لكن ما يجب الانتباه إليه في كل تحليل عن السياسة الأمريكية هو مدى دقة قرارت الرئيس، وذلك لأنه أكثر رئيس أمريكي يصرح بالعلن، وأكثرهم انفعالاً، وأكثرهم إهانة للآخرين، بل إن ترامب من أكثرهم استخداماً لكلمات لا يستخدهما معظم السياسيين، ومن أكثرهم صناعة للأعداء الجدد في الداخل والخارج، وفي هذا يقع الرئيس الأمريكي في أخطاء كبرى تفيد كل من يريد التصدي لسياساته. إيران ستقتنص الأخطاء التي سيقع فيها الرئيس ترامب.
لدى إيران نقاط قوة، فهي قادرة على التأثير على الدول الحريصة على الاتفاق النووي، وهي قادرة على مواجهة عسكرية محدودة وشاملة بنفس الوقت. وهي قادرة بفضل العقوبات والضغط الأمريكي على طرح مروية مفادها أنها التزمت بالاتفاق النووي، وأن الولايات المتحدة انسحبت منه من جانب واحد. وهذا بطبيعة الحال سوف يقوي نظامها السياسي والتضامنات الداخلية، ففي ظروف كهذه تؤدي العقوبات إلى عزل المعارضة والمعارضين، وتؤدي بطبيعة الحال إلى تقوية الجناح المتشدد بكل أنواعه، وبالطبع تؤدي العقوبات إلى تقوية الحرس الثوري والكيانات التي شملتها العقوبات الأمريكية. ومن نقاط قوة إيران طبيعة الرئيس ترامب والأخطاء التي سيقع فيها.
ما تريده إيران هو رفع للعقوبات وإعادة التأهيل وقيامها بتصدير النفط بصورة طبيعية، وهي تريد التزاماً أمريكياً بالاتفاق النووي، بل قد تتحمل كل الضغط القادم إليها بانتظار خسارة الرئيس ترامب للإنتخابات أمام منافس ديمقراطي يعيد الالتزام بالاتفاق. بل قد تمتنع إيران عن التفاوض مع ترامب، لكنها قد لا تمتنع عن التفاوض مع من يأتي مكانه. إن السياسة الإيرانية الراهنة تسعى لتثبيت مدى تطرف سياسة وزير الخارجية بومبيو ومستشار الرئيس للأمن القومي جون بولتون. إن معركة إيران مع الجناح الأمريكي الصقوري في البيت الأبيض مستمرة.
إن العلاقة الأمريكية الإيرانية علاقة شائكة. فالصراع الأمريكي الإيراني ليس حدثا جديداً، ففي 1952 مثلاً أراد محمد مصدق، رئيس الوزراء الإصلاحي الذي سعى لتأميم النفط الإيراني، إصلاح إيران ونظامها السياسي، وقد نتج عن سياساته قيام الولايات المتحدة من خلال وكالة المخابرات المركزية بتدبير انقلاب على محمد مصدق وتثبيت الشاه حاكماً ديكتاتوراً. وقد انتهى الأمر بقتل وتصفية محمد مصدق في العام 1953. لهذا اعتبر قطاع كبير من الإيرانيين بأن كل ما قام به الشاه منذ 1953 وحتى لحظة الثورة الإسلامية وانتصارها عام 1979 عملاً أمريكياً، كما أنهم انطلقوا من قدرة الولايات المتحدة على تدبير انقلابات وقتل قادة وطنيين مستقلين. إن جرائم الشاه نسبت في الوعي الإيراني للولايات المتحدة كما ولإسرائيل. لهذا السبب، لم تتعاف العلاقة الأمريكية الإيرانية منذ ثورة 1979.
لقد حاول الرئيس أوباما ترميم حالة عدم الثقة الأمريكية الإيرانية، وسعي عبر الاتفاق النووي لاستيعاب إيران وإعادة تأهليها. لكن ذلك لم يغير من كون إيران ما زالت تسعى لبناء نفوذ لها في الإقليم المحيط بها في منطقة الخليج وفي العالم العربي. لقد مثل الاتفاق النووي الإيراني خطوة كبيرة لمنع تحول إيران إلى دولة نووية في المدى المنظور، كما سبق وحصل مع كل من الهند والباكستان. لكن الواضح بنفس الوقت أن الرئيس الجديد ترامب اقتنع بأن المدة المنصوص عليها في الاتفاق، والتي تسمح لإيران بعد عشر سنوات بمعاودة التخصيب، ليست كافية. شكل هذا الأساس لانسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران.
إن الصراع الأمريكي الإيراني في هذه المرحلة يختزل بالمسألة النووية، وإن نجحت إيران في التفاوض لرفع العقوبات وقدمت للرئيس ترامب اتفاقاً أفضل واتفاقاً يستطيع أن يتباهي ببعض أجزائه، تكون إيران قد تجاوزت هذه المرحلة. لكن للآن، الواضح أن الأمور ستسير نحو التصعيد والمواجهات الممتدة والأزمات قبل أن تشهد أفقاً واضحاً نحو التفاوض مع إدارة ترامب أو مع الإدارة القادمة في شتاء 2021.
القدس العربي