بغداد – تمثل المشروبات الروحية، تجارة ناشئة في بغداد، تواصل منذ نحو عامين توسيع مساحة انتشارها، وسط الإقبال الكبير من قبل سكان العاصمة العراقية على الكحول.
ومرت تجارة الكحول في العاصمة العراقية بمنعرجات عديدة، تأرجحت بين السماح بها جزئيا، أو منعها نهائيا في بعض الحالات، تبعا للوضع الأمني، أو رأي أطراف سياسية متنفذة ترفع شعار الدين.
ويقع قانون تجارة الكحول في العراق، ضمن دائرة غائمة، إذ تخشى الحكومات المتعاقبة منذ 2003 إثارة غضب أحزاب الإسلام السياسي، التي تتهم باستخدام هذه الورقة للمناورة مع الجمهور المتدين. لذلك، لم تصدر هذه الحكومات تعليمات واضحة بشأن منع الكحول أو السماح بتداولها، فيما تخضع عملية الحصول على إجازة لفتح متجر للمشروبات الروحية إلى مساومات تقع خارج القانون في الغالب.
وخلال مرحلة العنف الطائفي في 2005، وما تلاها من اضطرابات أمنية، لحين الوصول إلى لحظة تنظيم داعش في 2014، شكل بيع الكحول في بغداد جريمة قد تؤدي إلى القتل. وفي الغالب كانت الشرطة المحلية هي أداة المنع الأولى، بالرغم من عدم وجود نصوص قانونية صريحة تمنع تجارة الكحول.
وشجعت هذه التقلبات على بناء تقاليد خاصة لضمان تدفق الكحول على الأسواق العراقية، حتى وصل الأمر إلى مشاركة ميليشيات منبثقة عن أحزاب دينية في تأمين خطوط نقلها وتوزيعها، نظرا للأرباح الهائلة التي تدرها.
وفسحت هذه الضبابية القانونية، الباب أمام مجموعات مسلحة للتدخل في تجارة الكحول، وربما الهيمنة على حركتها، كما يحدث الآن. واللافت أن معظم هذه المجموعات عملت في أوقات عديدة على ملاحقة أصحاب متاجر الكحول، وأحيانا قتلهم.
ومنذ العام 2017، توسعت المجموعات المسلحة في الترويج لتجارة الكحول، وسهلت افتتاح العشرات من المتاجر الكبيرة، في مناطق لم تعرف هذا النوع من الأعمال، حتى خلال حقبة نظام صدام حسين.
لكن الانفجار الكبير في تجارة الكحول بدأ أواخر العام الماضي، عندما اتجه مستثمرون، بالشراكة مع زعماء ميليشيات مسلحة، لافتتاح متاجر ضخمة متخصصة في بيع المشروبات الروحية، توزعت في مناطق مختلفة من بغداد.
والآن، أمكنك أن تدخل متجرا في بغداد، مكونا من عدة طوابق، وتأخذ عربة للتسوق، وتجول في أركانه، محملا إياها بما تشتهي نفسك من أصناف البيرة والعرق والويسكي والفودكا والنبيذ، فيما تتولى شركة أمنية في الخارج مهمة تأمين المكان، وتنظيم عملية وقوف سيارات المتبضعين.
وشكل المتجر الأول من هذا النوع في بغداد، الذي افتتح في تقاطع نفق الشرطة، غرب العاصمة العراقية، ظاهرة لفتت الأنظار، إذ يتدفق الآلاف من الزبائن يوميا على هذا المكان، الذي يعرض أنواع الكحول المختلفة، كما تعرض المتاجر مختلف البضائع الأخرى.
ولا يمكن تحديد الجهة التي تملك هذا المتجر، بالنظر لحساسية الأمر، لكن الحديث يدور عن مستثمر ينحدر من إحدى الأقليات، بالشراكة مع زعيم مجموعة مسلحة نافذة في العاصمة العراقية.
وخلال حقبة النظام السابق، كانت تجارة الكحول حكرا على بعض الأقليات، إذ لا يجيز القانون الذي كان نافذا آنذاك للمسلمين العمل في هذا القطاع، وهو أمر استمر خلال الأعوام العشرة الأولى التي تلت الإطاحة بصدام. لكن الأعوام الأخيرة شهدت دخول الكثير من المستثمرين والعمال المسلمين على خط هذه التجارة المربحة.
وخلال شهر رمضان الماضي، كان واضحا أن تجارة الكحول تحظى بتسهيلات كبيرة في بغداد، إذ فتحت بعض متاجر المشروبات الروحية أبوابها بشكل جزئي أمام الزبائن، خلال ساعات الليل.
وفي مناطق الكرخ من بغداد، ذات الغالبية السكانية السنية، يمكنك أن تشتري الكحول حتى خلال المناسبات الدينية الشيعية الكبرى، كذكرى وفاة الحسين مثلا، وهو أمر كان يتسبب في ملاحقة وقتل المتاجرين بهذه البضاعة سابقا.
وبينما يرى الكثيرون في هذا الملمح انتصارا للروح المدنية في العاصمة العراقية، يربط آخرون بين ازدهار هذه التجارة وحاجة مجموعات عراقية مسلحة إلى مصادر تمويل، بعدما شح المال الإيراني، بسبب العقوبات الأميركية.
ويؤكد مراقب سياسي عراقي أن ظاهرة “التدين” لم تكن معروفة في العراق إلا على نطاق فردي ضيق لا يُرى ولا يملك تأثيرا، لذلك لم يخطر في بال أحد أن يطالب الدولة بمنع الخمور التي عرفها العراقيون منذ نشوء أول حضارة لهم.
وأشار المراقب في تصريح لـ”العرب” إلى أن الفوضى التي تلت الاحتلال الأميركي سمحت لبعض الجماعات المسلحة بفرض شريعتها على الشارع، أملا منها في إنشاء دولة دينية على غرار الدولة الدينية القائمة في إيران.
ووقع حرق محلات تجارية وقتل باعة، كما أن بعض المناطق شهدت تداولا سريا للخمور في مقابل انتشار ظاهرة تداول المخدرات، تجارة واستعمالا، وهو ما يشير إلى مسؤولية الجماعات التي تصدت لتجارة الخمور عن الإشراف على تجارة المخدرات القادمة من إيران.
ولا يستبعد العراقيون أن تكون الأحزاب والميليشيات التابعة لإيران هي المستفيدة من توزيع الخمور سرا في حين صار العراق سوقا للمخدرات بكل أنواعها.
وظلت الحكومات المتتالية تلتزم الصمت، ليس لأنها لا ترى في ما يحدث مسا بالحريات الشخصية وليس لأنها كانت من جهة توجهات أفرادها ذات منحى ديني بل لأنها لم ترغب في أن تكون طرفا في صراع قد ينزع عنها هيبتها بشكل نهائي. فهي من جهة لا تقوى على إصدار قانون تحظر من خلاله الخمور خشية أن تغضب الشارع العراقي وهي من جهة أخرى لا تملك سيطرة على الميليشيات التي تفرض بين حين وآخر شريعتها بشكل مفاجئ.
ويعتقد المراقب العراقي أن أطرافا في الحكومة لها علاقة خفية بما يجري، وأنها مستفيدة من خلال قيامها باحتكار تجارة الخمور.
العرب