قبل نحو عام، اضطر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلى التراجع عدة خطوات إلى الخلف والتغاضي عن قرارات البنك المركزي برفع أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، وذلك على وقع ضغوط اقتصادية داخلية وخارجية هائلة أدت إلى فقدان الليرة التركية لقرابة 40٪ من قيمتها.
وعلى الرغم من تساهله مع تمرير قرارات البنك المركزي التي أوصلت سعر الفائدة في البلاد إلى 24٪، في محاولة على ما يبدو للانحناء قليلاً أمام موجات الضغط الهائلة التي كان يتعرض لها الاقتصاد التركي، إلا أنه أعلن منذ ذلك التاريخ أنه يعارض ما يجري بقوة واعداً بالعمل على خفض أسعار الفائدة مجدداً فور توفر الظروف المناسبة.
وهاجم اردوغان مراراً ما اصطلح على تسميته بـ»لوبي الفائدة» وذلك في إطار حربه الطويلة على أسعار الفائدة في البلاد التي يسعى إلى تخفيضها، من أجل تعزيز الاستثمار والمشاريع التنموية في البلاد، وهي الركيزة الأساسية التي استندت عليها حكومات العدالة والتنمية طوال 17 عاماً من حكم البلاد.
ومنذ أشهر، بدأ اردوغان محاولاته للعمل مجدداً وبشكل تدريجي من أجل خفض أسعار الفائدة، وذلك بعدما أظهرت تقارير اقتصادية حكومية ان اقتصاد البلاد بدأ يستقر تدريجياً ويعود إلى مساره الطبيعي. لكنه على واجه مقاومة شرسة من قبل البنك المركزي الذي أصر الإبقاء على سعر الفائدة الرئيسي عند 24٪ دون تغيير.
ولأول مرة في تاريخ الجمهورية، استخدم اردوغان الصلاحيات الجديدة التي منحها له النظام الرئاسي الجديد في البلاد، وأصدر مرسوماً رئاسياًأوائل الشهر الجاري بإنهاء مهام رئيس البنك المركزي مراد جتينقايا، وتعيين نائبه مراد أويسال بدلاً منه.
سبب إقالة محافظ البنك
ولم يتردد في الإعلان لاحقاً وبشكل صريح عن أنه أقال رئيس البنك المركزي بسبب رفضه تطبيق توجهات الحكومة بخفض أسعار الفائدة، وقال «أبلغناه مرارا خلال اجتماعات اقتصادية أنه ينبغي خفض أسعار الفائدة. أبلغناه أن خفض سعر الفائدة سيسهم في خفض التضخم. لم يفعل ما كان ضروريا».
يذكر ان أردوغان يتبنى نظرية حول أسعار الفائدة والتضخم تعاكس كل ما هو معروف في علم الاقتصاد. فهو يرى ان خفض أسعار الفائدة، وعدا عن أنه يسهم في حفز الاستثمار، يقود إلى انخفاض معدل التضخم، في حين يرى الاقتصاديون العكس.
وفي أول اجتماع للبنك المركزي في عهد رئيسه الجديد، قرر البنك خفض أسعار الفائدة لأول مرة منذ قرابة خمسة سنوات، بواقع 425 نقطة أساس (4.25%) لتهبط أسعار الفائدة من %24 إلى %19.75، في خطوة تشير إلى بدء اردوغان في تنفيذ رؤيته الاقتصادية فيما يتعلق بأسعار الفائدة، والأهم انها تؤكد أن الرئيس الجديد للبنك المركزي بات متوافقاً مع توجهات الرئيس لأول مرة منذ عقود.
لكن هذه الخطوة تعتبر بمثابة البداية فقط لتطبيق توجهات اردوغان، الذي تقول مصادر تركية إنه قرر خفض نسبة الفائدة إلى ما دون 14.6٪ قبيل نهاية العام الجاري، أي ما يقارب نصف النسبة السابقة 24٪، على أن يتم ذلك بالتدريج في الاجتماعات المقبلة للبنك المركزي المقررة على التوالي، في الثاني عشر من سبتمبر/أيلول، والرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين، والثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول المقبل. وخلافاً لكافة التوقعات والتكهنات من السياسيين والاقتصاديين، تقبلت الأسواق التركية بهدوء قرار خفض سعر الفائدة، ولم تشهد أي اضطرابات، على الرغم من تحذيرات كبيرة جداً طوال الأسابيع الماضية من أن خفض أسعار الفائدة سوف يؤدي إلى انهيار جديد في قيمة العملة التركية وسوق البورصة. حيث فقد قيمة الليرة أمام الدولار من 5.72 ليرة للدولار، إلى 5.65، كما سجلت بورصة إسطنبول ارتفاعاً ملحوظاً في مداولات أمس الأول وأمس الجمعة يقول مؤيدو أردوغان ان رفع أسعار الفائدة بشكل كبير يستهدف السيطرة على التراجع الكبير في قيمة العملة المحلية، ومن أجل خفض معدل التضخم في البلاد، الذين يرون (مثل اردوغان) ان ارتفاعه هو نتيجة لأسعار الفائدة المرتفعة وليس السبب الذي دفع المركزي إلى رفعها، ويؤكدون ن خفض أسعار الفائدة سوف يؤدي إلى انخفاض نسب التضخم.
رفع النسب ساهم في الركود
يذكر ان رفع نسب الفائدة كان من بين الأسباب التي أسهمت في حدوث ركود غير مسبوق في الاقتصاد التركي، وذلك نتيجة لجوء المستثمرين إلى تشغيل أموالهم في البنوك للحصول على أسعار فائدة مرتفعة وعزوفهم عن الاستثمار في الصناعة والتجارة والعقارات، وهو ما أدى إلى تراجع نسب النمو في البلاد إلى أدنى مستوى منذ وصول حزب العدالة والتنمية للحكم قبيل 17 عاماً.
وفي خطاب له الجمعة، اعتبر اردوغان أن قرار البنك المركزي خفض أسعار الفائدة «مهم ومصيري»، مؤكداً على وجوب استمرار تيسير السياسة النقدية (خفض الفائدة) بوتيرة تدريجية حتى نهاية العام، مكررا اللازمة التي لا يمل من تردادها، وهي ان «أسعار الفائدة المرتفعة أكبر عقبة أمام الاقتصاد التركي». وقال اردوغان «منذ وقت طويل وأنا أقول أن 24 نسبة فائدة مرتفعة بالنسبة لتركيا، وعبرت عن عدم ارتياحي، لكن رئيس البنك المركزي في ذلك الوقت لم يستجب، وكان البعض يحذرن من انهيار الاقتصاد والعملة في حال خفضنا الفائدة، الآن البنك المركزي خفض الفائدة، ماذا حصل؟ هل غرق الاقتصاد؟، هل انتهينا؟، على العكس كانت ردت فعل الأسواق طبيعية جداً، وهذا ما يجب أن يحصل».
كما عاد اردوغان إلى الحديث عن «المؤامرات» بالقول «تركيا تعرضت لمؤامرة اقتصادية كبرى قبل نحو عام كانت تهدف لإضعاف الاقتصاد من أجل السيطرة على الحكومة، ولكننا استطعنا التغلب عليها. كما كانت هناك مؤامرة قبيل الانتخابات المحلية في مارس/آذار الماضي حيث حاولت مؤسسات التصنيف الدولية التلاعب بتصنيف تركيا بدوافع سياسية وفشلت في التأثير على الاقتصاد التركي»، معتبراً ان الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في الأشهر الماضية جعلت تركيا أقوى في مواجهة التلاعبات الاقتصادية. وعلى الرغم من أن ردةفعل الأسواق ما زالت مستقرة حتى الآن بعد قرار خفض أسعار الفائدة، إلا أن اردوغان ما زال أمام تحد كبير يتمثل في الحفاظ على استقرار الأسواق مع استمرار تطبيق توجهه لخفض أسعار الفائدة تباعاً العام الجاري وصولاً إلى النصف تقريباً. ويجمع اقتصاديون على أنه في حال تمكنه من الحفاظ على استقرار الأسواق وخفض نسبة التضخم وزيادة معدلات الاستثمار والتشغيل من خلال خفض أسعار الفائدة ودون حصول انهيار في قيمة العملة التركية، سيكون ذلك بمثابة إعلان انتصار كبير لاردوغان على ما يعرف بـ«لوبي الفائدة»، وتأكيد لنجاح نظريته في إدارة الاقتصاد التركي.
القدس العربي