يشهد الاقتصاد التركي اليوم مرحلة من الركود في وقت تبحث فيه الولايات المتحدة وأوروبا كيفيّة فرض عقوبات على أنقرة، كما تشكل الحدود المضطربة التي تفصل جنوب تركيا عن سوريا والعراق مشاكل لعلاقات أنقرة مع كل من روسيا وسوريا وإيران والولايات المتحدة. والآن، يواجه أردوغان نكسة جديدة حيث بدأت الشخصيات البارزة الموالية لحزب العدالة والتنمية تقفز من ظهر سفينة الرئيس الغارقة.
أنقرة – تشهد السياسة التركية تغيرا في مشهدها، وبدأ اليقين بتواصل حكم حزب العدالة والتنمية في المستقبل دون منافس يتلاشى بسرعة. ويهدد احتمال تمرد أهم شخصيات حزب العدالة والتنمية بتحويل الساحة السياسية التركية إلى رمال متحركة تغرق رئيس البلاد.
لكن، لن يعترف حزب العدالة والتنمية بهزيمته دون أن يقاتل إلى النهاية. وفي كفاحه للحفاظ على هيمنته، سيضع الاقتصاد التركي والعلاقات مع حلفائه وسيادة القانون على المحك.
ويقول خبراء في مركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية إنه “حتى مع حيله ومكائده، أصبح حكم تركيا مهمة شاقة بالنسبة إلى الرئيس رجب طيب أردوغان”.
ويذهب مختصّون بالشأن التركي في السياق ذاته مشيرين إلى أن متابعة رحلة نشوء وارتقاء حكم أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية، تكشف أن الوضع الراهن الذي يمران به أمر طبيعي.
حزب العدالة والتنمية صعد في سنة 2002 على أنقاض ما تسببت فيه الحكومات التي جاءت على ظهر الدبابة في تركيا منذ نهاية حكم كمال أتاتورك، يوم وصل إلى المرحلة نفسها من التسلط وبدأت سياساته تتسبب في أزمات اقتصادية يصاحبها خنق للحريات وعزلة دولية.
وبدأت مرحلة الانهيار أساسا عندما بدأ الناخبون في مدن البلاد الكبرى يشعرون أن حزب العدالة والتنمية أصبح يفرض حكما استبداديا تحت غطاء حزب الشعب الجمهوري القومي المتشدد.
تشققات في هيكل الحزب
لم تعد آفاق حزب العدالة والتنمية مشرقة كما كانت، وخاصة تلك المتعلقة بهيمنته على البرلمان. ويوضح خبراء ستراتفور ذلك مشيرين إلى أنه على مدار سنوات استفاد الحزب من اقتصاد مزدهر، ومعارضة غير منظمة، وجاذبية شخصية أردوغان وحلفائه الأيديولوجيين والسياسيين الذين حولوا الحزب إلى طرف مسيطر في تركيا.
لكن، مع انتخابات يونيو 2018، لم تعد الأمور كما كانت بالنسبة لحزب العدالة والتنمية. فعلى الرغم من انتصار أردوغان، لمّحت عدة نكسات إلى وجود صدع في آليته السياسية. لم تعد الآلية السياسية التي يتبعها بعد الهزائم المفاجئة التي تكبدها في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها أنقرة وإسطنبول خلال السنة الحالية فعّالة كما كانت من قبل.
فشل حزب العدالة والتنمية في تحقيق أغلبية برلمانية، حيث حصل على 295 مقعدا فقط في البرلمان الذي يجمع 600. واليوم، لم يعد الحزب قادرا سوى على تمرير الميزانيات أو التشريعات بفضل تحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف الذي يمنحه الأغلبية الحاكمة.
والآن، يواجه أردوغان نكسة جديدة حيث تبدو بعض الشخصيات البارزة الموالية لحزب العدالة والتنمية مستعدة للقفز من ظهر سفينة الرئيس الغارقة نحو سفينة حزبية جديدة. وأصبح اضمحلال قوة حزب العدالة والتنمية أكثر وضوحا بعد أن فقد الأغلبية في أهم دوائره الانتخابية (أنقرة وإسطنبول). وفي ظل هذا الارتباك، تلقى حزب العدالة والتنمية ضربة من أعضائه السابقين، مثل وزير الاقتصاد التركي السابق علي باباجان والرئيس السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، الذين بدا ولاؤهم للكتلة الحزبية التي ساعدوا على تأسيس قاعدتها غير مستقر. وفي 8 يوليو، استقال باباجان من حزب العدالة والتنمية رسميا وأعلن عن نيته تشكيل حزب جديد مما أدى إلى إشعال نيران التمرد داخل الحزب.
تؤثر هذه الانشقاقات في القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، الذي اعتمد على قاعدة قوية من المسلمين المحافظين والإسلاميين وأصحاب المصالح التجارية والعمال والقوميين للفوز بالأغلبية في ظل النظام السياسي التركي المعتمد.
وأعطى هذا الائتلاف الواسع القوة السياسية التي يحتاج إليها حزب العدالة والتنمية لردع المؤسسة الكمالية العلمانية المدعومة من الجيش -والتي تدخلت في السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية سنة 1923- وكسرها.
في صيف 2018 انهارت الليرة واجتاحت البلاد موجة قلق يصاحبها إحساس متزايد في صفوف الناخبين الأتراك بأن حزب العدالة والتنمية أصبح يفرض حكما استبداديا مع تزايد إسلامويته تحت غطاء حزب الشعب الجمهوري العلماني، وخاصة خلال الاستعداد للانتخابات البلدية.
في الأثناء، كانت المعارضة تبحث عن فرصة للعب دور مستفيدة أساسا من حالة الغضب الشعبي على سياسات النظام الحاكم. كما علا صوت الأكراد في الانتخابات وبدا حضورهم في المشهد السياسي أقوى.
وتبدو الأزمة الاقتصادية المقبلة خانقة، حيث موّلت تركيا نموها عبر حشد أموال من الديون التي تلقتها في العقد الأول من القرن الحالي. ولكن، اقترب أجل تسديد الديون المستحقة في وقت أصبحت فيه الليرة غير المستقرة ضعيفة وغير قادرة على مساعدة تركيا خلال هذه الفترة.
ليس هناك ما يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يفعله لتفادي أزمة ديون القطاع الخاص الهائلة في البلاد، ولا يمكن تجنب إعادة الهيكلة في الفترة القادمة.
وتخلق هذه العوامل الداخلية مجتمعة مشهدا سياسيا جديدا لم يألفه حزب العدالة والتنمية من قبل، بما قد يدعم جبهة المعارضة ويؤثر على البرلمان أين سيجد حزب العدالة والتنمية نفسه أكثر ضعفا وعرضة للخطر.
ظاهريا، يتمتع حزب العدالة والتنمية بمهلة تمتد إلى يونيو 2023 وتبدو كافية لتعافيه من هذه الانتكاسات بفضل احتكاره لوسائل الإعلام والمحاكم والمزايا البرلمانية التي يحظى بها حاليا. لكن، إذا نجح الأعضاء المنشقون في استقطاب أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان، سيواجه الحزب خيار الدعوة إلى الانتخابات المبكرة قبل الموعد المخطط لها بشروط لن تكون لصالح حكومة أردوغان المحاصرة.
يعد هذا السيناريو أكثر احتمالا نظرا إلى فرض الدستور التركي ضوابط على الصلاحيات الرئاسية على الرغم من إعطاء “الإصلاحات الأخيرة” نفوذا أكبر لأردوغان مقارنة بسابقيه.
على سبيل المثال، يتعين تفعيل ميزانية ما موافقة الأغلبية في البرلمان. وعلى الرغم من قدرة أردوغان على تجاهل الهيئة التشريعية لإعادة فرض ميزانيات سابقة، تحدّ القيودُ على سلطته قدرتَه على فرض إرادته على بقية اقتصاد البلاد.
كما يمكن للبرلمان منع الإعلان الرئاسي للطوارئ، وعرقلة قرارات الرئيس والدعوة إلى انتخابات مبكرة بأغلبية بسيطة تصل إلى نسبة 60 بالمئة، إذ تمنح الرئاسة سلطة أكبر لحزب العدالة والتنمية إلا أنها لا تستطيع حيازة جميع الامتيازات. لمواجهة ذلك، سيعيد أردوغان النظر في خططه، فقد واجه المشاكل الانتخابية من قبل. فبعد فشله في الفوز بالأغلبية في انتخابات يونيو 2015، دعا أردوغان إلى إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر من السنة نفسها، وحشد قوة حزبه من خلال توظيف القومية وإبراز نجاحات الحزب الاقتصادية واستغلال نفوذ الحزب على المؤسسات لعرقلة المعارضة.
ونجحت إستراتيجيته في النهاية، حيث فاز الحزب في الانتخابات الثانية بالأغلبية التي كان يهدف إليها أردوغان. ولا شك في أن حزب العدالة والتنمية يمتلك بعض الوسائل لمقاومة ضغوط المعارضة، ويمارس نفوذا مؤسسيا كبيرا على منافسيه من خلال سيطرته على وسائل الإعلام في البلاد.
من خلال اللجوء إلى الخطاب القومي في وسائل الإعلام والتمتع بالسلطة من خلال مجلس الانتخابات والمحاكم، يمكن لحزب العدالة والتنمية تجريد شرعية أي حزب منشق وحصر الآخرين في صفوفه. ولكن، بالنسبة إلى المنشقين المصممين على التحرر من قبضة الحزب، من غير المرجح أن تنجح هذه الأساليب في ردعهم.
في الوقت نفسه، قد يمثل انتزاع الشرعية مجرد مقدمة لإجراء أكثر قوة. استخدم حزب العدالة والتنمية من قبل السلطات التي يستمدها من حالات الطوارئ لإزالة عمد من مناصبهم في المناطق الكردية. ويمكن أن يعيد الحزب ذلك للسيطرة على إسطنبول وأنقرة مرة أخرى. لكن، سيأتي رد الفعل المحلي والدولي سريعا إذا اتخذ هذا القرار.
ويمكن لحزب العدالة والتنمية أن يتخلى عن نظام التمثيل النسبي وأن يطبق نظام “الفوز للأكثر أصواتا” الذي من شأنه أن يزيد من حظوظ نجاح الحزب لأنه الأبرز في العديد من المحافظات مقارنة بمنافسيه. كما يمكن لحزب العدالة والتنمية استخدام نفوذه في البرلمان والمجلس الانتخابي لمحاولة تعطيل نجاح المعارضة الانتخابي مع بعض الخيارات، بما في ذلك إدخال تعديلات على قوانين الانتخابات البرلمانية في تركيا.
لكن المشهد التركي المحتقن يشي بأن أي خطوة استبدادية جديدة يمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار البلاد مع انتشار الاحتجاجات وحتى العنف.
في الوقت نفسه، لن يرحب عدد كبير من حلفاء تركيا في الغرب بمثل هذه المحاولات لتعزيز قوة حزب العدالة والتنمية، وسيزيد ذلك من حدة الصدام مع الاتحاد الأوروبي الذي تشهد علاقاته توترا مع أنقرة، ومع الولايات المتحدة المستاءة من قرار تركيا التي تسلمت منظومة الصواريخ الروسية أس 400.
في هذه الأثناء لن يعالج أي تحرك مؤسسي السببين الأساسيين اللذين يجعلان من تمرد حزب العدالة والتنمية تهديدا لحكم أردوغان؛ الاقتصاد الضعيف وشخصية أردوغان نفسها، وهما عاملان لا يمكن لحزب العدالة والتنمية السيطرة عليهما.
العرب