تزداد الأمور سوءا بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع تصاعد أعداد “الحلفاء” الفارين من سفينته نحو سفن حزبية أخرى، فيما تتقلص خياراته لإيقاف الانشقاقات التي يمكن أن تضعفه في البرلمان وتؤثر في الانتخابات العامة المقررة في البلاد قبل يونيو 2023، الأمر الذي يدفعه إلى التلويح بسطوة جهاز مخابراته وما يعنيه ذلك من عمليات تنصت وتلفيق جرائم وملاحقات وتصفيات.
أنقرة- بعث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الجولة التفقدية التي قام بها مؤخرا لمقرّ الاستخبارات التركية الجديد الذي يقع على أطراف أنقرة، برسائل استهدفت المعارضة التي قوِيَت قاعدتها وتوسّعت لتشمل الحلفاء قبل الغرماء. رسالة أردوغان الرئيسية تقول “إن العين عليكم”، مذكّرة بعملية التصفية التي حصلت إثر الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
لكن، لا يبدو أن صدى هذه الرسائل قويا بالشكل الذي يمكن أن يدفع المعارضة إلى التراجع بل بالعكس فضحت قلقا وتوترا بعد أن اختار عددٌ من الشخصيات البارزة في حزب العدالة والتنمية، على غرار رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان والرئيس السابق عبدالله غول، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، القفز من ظهر سفينة الرئيس الغارقة نحو سفينة حزبية جديدة؛ والأخطر أن السفينة الجديدة قد تشمل أيضا رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان، الذي قال عنه أردوغان يوم تنصيبه على رأس جهاز الاستخبارات التركية، “إنه حافظ إسراري، إنه حافظ أسرار الدولة”.
ويعلق الكاتب التركي أونور ميته على هذه التطورات، قائلا “بعد 16 عاما من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، ثمة مؤشرات تدل على أن السياسة في تركيا تدخل فترة التغيير. وهذا التغيير يعتمد بشكل خاص على الموقف الذي يتخذه رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية هاكان فيدان”.
دولة المخابرات
عمل أردوغان منذ أن كان رئيسا للوزراء، على إصدار العديد من القوانين ووضع يده على وسائل الإعلام، وطرد الآلاف من القضاة ورجال الشرطة وفرض حظرا على المواقع الإلكترونية وقلّص من سطوة الجيش ووضع يده على جهاز الشرطة ومختلف مؤسسات الدولة، لكن يبقى التغيير الأبرز ذلك الحاصل على مستوى جهاز المخابرات، حتى أن البعض من المحللين يذهبون إلى القول إن أردوغان خلّص تركيا من وصاية الجيش ليضعها تحت سلطة المخابرات.
بدأت بوادر هذا التحول تظهر إلى العلن في سنة 2010، حين أعلن أردوغان تعيين هاكان فيدان، على رأس المؤسسة الاستخباراتية التركية. وتمت إعادة بناء الاستخبارات التركية بتقسيمها إلى جهازين أحدهما للداخل، يترصّد المعارضة ويمنع الكشف عن المزيد من قضايا الفساد التي تمس الرئيس وجماعته، واستخبارات للخارج، وهي بدورها تصب في صالح خدمة الخطة الأردوغانية الطامحة إلى مدّ النفوذ في المنطقة ومحاصرة المعارضين.
وكان كمال كيليتشدار أوغلو، زعيم المعارضة، قد اتهم حكومة العدالة والتنمية بالسعي إلى إعادة القوانين التي كان وضعها الجنرال كنعان إيفرين قائد الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980. وجاء هذا الاتهام، على خلفية القوانين التي تمت المصادقة عليها سنة 2014، وقضت بتوسيع صلاحيات جهاز المخابرات وبإتاحة التنصت على المعارضين والمتابعة التقنية لهم بتهمة الجريمة ضد النظام.
واليوم، يبدو أن حاجة الرئيس التركي ملحة لهذه الممارسات في ظل التغييرات التي تزحف على السياسة التركية دون أن يستطيع كبحها، فيما لا تبدو أربع سنوات، وهي المدة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية، كافية لرتق الشرخ الحاصل في حزب العدالة والتنمية والخروج من كل الأزمات التي صنعتها سياسات أردوغان في الداخل والخارج.
يستدعي هذا الوضع من أردوغان المسارعة إلى زيادة التجسس على المواطنين الأتراك والأحزاب المعارضة، وإجهاض أيّ محاولة للتجمّع ضدّه أو الإطاحة به. ويبدو أن خشية أردوغان دفعته إلى تصدير الخوف إلى المواطنين الأتراك، وتوظيف الهالة المحيطة بجهاز الاستخبارات لخدمة مصلحته الشخصية، وتقديم إنجاز المبنى الضخم الذي ويمتد على مساحة 5 آلاف دونم، والمحاط من جميع الاتجاهات بجدار ضخم يبلغ ارتفاعه 3 أمتار، والمجهّز بأحدث التقنيات، على أنّه عائد له، وبمعنى آخر في خدمته للتجسّس على الجميع، وإحصاء أنفاسهم عليهم، إذا اقتضت الضرورة.
وتأتي زيارة أردوغان، الأربعاء الماضي، إلى مبنى الاستخبارات التركية الجديد، من منطلق حرصه على إظهار سلطته، والتأكيد على وقوف جهاز المخابرات الممسك بزمام الأمور إلى جانبه. كما يوجّه رسائل مباشرة إلى الداخل والخارج معا. ومن رسائله أنّه الرئيس القوي الذي لا تنال منه أيّ هزّة أو نكسة يتعرّض لها، وأنّ نظامه الرئاسي الجديد يعتمد على القوة المفرطة، وجهاز الاستخبارات بكلّ إمكانياته وطاقاته يقف إلى جانبه ويدعمه لصدّ أيّ محاولة للتمرّد أو الانقلاب عليه.
ويحاول الرئيس التركي التأكيد على أنه لا يمكن للاستياء الشعبي المتنامي ضدّه وضدّ سياساته الاقتصادية، وكذلك التململ ضمن صفوف حزبه، ولاسيما بعد خسارته المدن الرئيسية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في نهاية مارس الماضي، أن ينالا من هيبته وسلطته، وأنّه ينبغي الخوف من غضبه، والعمل على تجنّب إثارته كي لا يؤلّب جهاز المخابرات على مَن يريد، وهذا ما يوصف من قبل معارضيه بأنه سلوك يتوافق مع صورة لزعيم عصابة وليست لرئيس دولة.
ويسعى كذلك إلى التذكير بأنّ جهاز الاستخبارات، ورئيسه هاكان فيدان الذي يتمتّع بنفوذ كبير في أجهزة الدولة، يقفان إلى جانبه، وهو أمر تشكك فيه التقارير التي تؤكد أن فيدان، المقرب من عبدالله غول، لن يتخلى عن أحلامه التي حاول أردوغان كبتها من قبلُ.
ولا يخفي هاكان فيدان رغبته في لعب دور سياسي، وقد سعى إلى ذلك بعد أن أنهى قيادة جهاز الاستخبارات لمدة خمس سنوات. وكان يخطط لأن يكون نائبا في البرلمان ثم وزيرا للخارجية، فرئيسا للوزراء على خطى أحمد داود أوغلو، لكن أردوغان أطاح بأحلام رئيس استخباراته السياسية.
من المخابرات إلى الرئاسة
يقول أونور ميته “فيدان وجهاز الاستخبارات الوطنية يتمركزان في قلب الدولة مباشرة، وقد ظل رئيس الاستخبارات إلى الآن يصطف دائما على الجانب الفائز”.
وكان فيدان يتطلع إلى إنهاء فترة مهمته، المحددة بخمس سنوات، لينتقل إلى النشاط السياسي إلا أن خططه عرقلها أردوغان؛ فقد كان يمني النفس بأن يصبح رئيس الوزراء القادم بعد داود أوغلو. لكن في حين كان بإمكان أردوغان قبول شخصيات قوية في الجهاز البيروقراطي للدولة، لم يستطع تحمل الشيء نفسه في المواقع السياسية.
وهكذا اُضطر فيدان إلى تأجيل طموحاته السياسية. وهو في طريقه ليقضي أطول فترة في رئاسة جهاز الاستخبارات الوطنية منذ تولي شوكرو علي أوجيل، أول رئيس لجهاز الاستخبارات، الذي عينه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
لكن، قد يرى فيدان في المتغيرات الحاصلة فرصته. ويرى أونور ميته أنه في ظل أن الأحداث التي وقعت في ليلة محاولة الانقلاب عام 2016 لا تزال غامضة، وأن إجراءات فيدان، القريب من عبدالله غول، في تلك الليلة لم تختبر بشكل جاد، فمن غير المرجح أن يتخلى عن حماية دوره الحالي بالانحياز بشكل علني إلى باباجان وغول.
بيد أن الوسائل التي يحتفظ بها فيدان كرئيس لجهاز الاستخبارات لا تزال قوية، وقد يضعها تحت تصرف حزب جديد. وبالنظر إلى احتكار جهاز الاستخبارات للأنشطة الاستخباراتية، فستكون مساهمته لصالح أردوغان أو غول لها أهمية كبرى. ويعتمد مصير فيدان على ما إذا كان بإمكانه اختيار الطرف الفائز مرة أخرى.
العرب