مع إعلان المبعوث الأمريكي جيمس جيفري عدم التوصل لاتفاق مع تركيا حول المنطقة الآمنة، وأن واشنطن ستحمي الأكراد شمال سوريا في وجه التهديدات التركية، ضد وحدات حماية الشعب الكردية، يظهر أكثر وأكثر حجم المأزق التركي في شمال سوريا، ويتأكد ما كنا قد أشرنا له مرارا، من أن التهديدات التركية بشن عمل عسكري شمال ســـوريا، مجرد «قنابل صوتـــية»، ففي تصريحات المبعوث الأمريكي جيفري، ثقة واضحة بعدم وجود قدرة تركية على تجاوز الخطوط الحمر الامريكية شمال سوريا، بل إنه يقـــول إن وزير الدفاع التركي لم يكن يملك خطة للهجوم شمال سوريا، وإن الطلبات التركية وصلت لسقف محدود في النهاية، لمجرد إبعاد الأسلحة الثقيلة من جنوب الحدود التركية لمسافة 15 كيلومترا .
فشل مباحثات واشنطن وأنقرة حول المنطقة الآمنة سيدفع تركيا مجددا نحو روسيا
فتركيا لا تملك قرار التدخل شمال سوريا وحدها، وهي ظلت تعتمد، مرة على واشنطن ومرات على موسكو، في أخذ التصريح بأي عمل عسكري داخل سوريا، وهكذا ربطت نفسها بشكل كامل في قيود هاتين القوتين، بينما ظلت إيران، كقـــوة اقليمية منافسة ومجاورة لتركــــيا، تملك الجرأة والــقـــدرة والنفــــوذ الاجتمـــاعي والأمني، على التدخل لحمـــاية حلفائها في بلدان الشرق الاوسط، من دون استئذان. ولكن ماذا عن الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا؟ وكيف يؤكد الأمريكيون على أنهم سيحمون حلفاءهم الأكراد، وهم أعلنوا مرتين على أعلى مستوى قيادي، خطة انسحابهم من شمال سوريا؟
من الواضح أن الامريكيين سينسحبون من شمال سوريا ضمن خطة انسحاب مرحلية تم الإعلان عنها، بحيث تتبقى أعداد محدودة من الجنود في نهاية المطاف، وتم الحديث عن أعداد الجنود الذين سيبقون في النهاية في سوريا، من قبل مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، لكن قبل ذلك يريد الأمريكيون تأمين حماية القوى الكردية شمال سوريا، ولحد الآن، لا يبدو مشروع الأمريكيين واضحا في كيفية تأمين هذه الحماية، فمرة يتم الحديث عن جلب قوات دولية، ومرة عن دور سعودي، ولكن التطورات على أرض الواقع، وطبيعة التوازنات في العراق وسوريا، والنظر لما حصل مع نظراء الحالة الكردية السورية في كردستان العراق، تشير إلى أن القدرة الامريكية على لعب دور حاسم شمال سوريا قد تتآكل بمرور السنوات القليلة المقبلة، وأن الأكراد قد يضطرون في نهاية المطاف لعقد تسوية مع النظام السوري وإيران، وبإصرار روسي يرى كما يرى الإيرانيون، في الولايات المتحدة منافسا، لا يمكن القبول به في منطقة لنفوذهم، عند هذه النقطة قد تتنفس تركيا الصعداء مجددا، وترى ان تقاربها الأخير مع موسكو، كان ربما من القرارات الاستراتيجية التي كانت محظوظة بها بشــــكل نادر، بعــد سلسلة من الإخفاقات والتقديرات غير الدقيقة في سياستها الخارجية في سوريا والعراق.
والمفارقة أن وجود النظام السوري شمال سوريا، قد يشكل حلا مقبولا لدى الامريكيين والأتراك والإيرانيين والروس معا، فبالنسبة للاتراك هــــو وجود لنظام دولة عربية يحد من مشروع روجافا الكردي، وبالنســـبة للروس وإيران فهو حليفهم بالطــــبع، أما بالنســبة للامريكان، فهـــو أقل الخيارات سوءا، في ظل الانسحاب الامريكي العام من المنطقة، لكن مع مراعاة تسوية مع الاكراد، وأعتقد ان دمشق قــــد تضطر للتـــنازل للقــــبول بالتسوية، بضغط روسي، يسعى للعب دور الضامن للكرد بدلا من الامريكيين، مادامت موسكو ستحصل على مكسب وهو خروج الامريكيين، وشكل هذه التسوية، التي جرى أيضا التفاوض بين ممثلي الاكراد والنظام على بنودها قبل شهور عدة، تتمحور حول الإبقاء على صلاحيات محلية ما، للإدارة الذاتية الكردية وحماية حقوق الأكراد الثقافية، مقابل فرض سلطة النظام، ورفع علمه على الحدود والمراكز السيادية في المناطق الكردية واستعادة المدن العربية كالرقة بالطبع.
قد يبدو هذا السيناريو مستبعدا للبعض في ظل الحماية الأمريكية اليوم، لكن مجرد النظر إلى كركوك في العراق الذي كان يوما محتلا بالكامل من 140 ألف جندي أمريكي وليس فقط أرضا لألفي جندي أمريكي، كما هي الحال في شمال سوريا، ومجرد تتبع المآلات التي أدت لاستعادة كركوك وفرض سلطة حكومة بغداد على المعابر الحدودية والحاسبة المركزية في مطار أربيل، وشق الصف الكردي باستمالة الطالبانيين لصف طهران ضد البارزانيين، وخروج البارزاني شاكيا من «الخذلان الامريكي»، كل هذه المآلات في ساحة نزاع قد تكون متماثلة الأطراف (امريكا ونظام موال لإيران وتركيا)، توحي بأن شيئا كهذا قد يتكرر مستقبلا في شمال سوريا.
القدس العربي