بات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) يلعب أوراقه على المكشوف في شرق سورية، لا حاجة بعد الآن للمناورة. ليس هناك حاجة كي يتكلم الطرف الكردي الذي وضعته واشنطن تحت حمايتها ورعايتها في شرق الفرات، ويصعّد ضد تركيا التي عندما تتأخر في تنفيذ تهديداتها باتجاه تحريك القوات في شرق الفرات، فهذا يعني أن معادلات وتوازنات كثيرة محلية وإقليمية دخلت على الخط تحول دون ذلك.
ما يردده ويفعله كبار القيادات السياسية والعسكرية الأميركية، رداً على مواقف التصعيد والتلويح التركي الدائم بالعملية العسكرية شرق الفرات يكفي ويزيد، ومن ذلك أن مبعوث الولايات المتحدة إلى سورية، جيمس جيفري يقول إن “الحضور العسكري الأميركي سوف يستمر، ومن المحتمل أن تطبق واشنطن في شرق الفرات ما طبقته من قبل في شمال العراق بين عامي 1991 و2005″، ذلك أن الولايات المتحدة تراهن على حليفها الكردي، لإنجاز مشروع الكيان المستقل في شمال شرق سورية، وهي لا يهمها كثيراً ما تقوله أنقرة الممنوعة من تنفيذ أي تحرك عسكري في منبج وشرق الفرات، “لأن القيام بعملياتٍ عسكرية في مناطق يوجد فيها جندي أميركي غير مقبول”.
ما اختلط علينا دائماً أن أميركا متمسكة بتعزيز حضورها في شمال شرق سورية، وتحويلها إلى منطقة نفوذ دائم لها، حيث الورقة الكردية وموارد الطاقة والأراضي الزراعية والحدود السورية العراقية والسورية التركية. ولكن الحقيقة أن المشروع وهدفه الحقيقي هو إسرائيل، وسبل إيصالها إلى هذه البقعة الجغرافية القريبة من مياه نهري دجلة والفرات، وهو المبرّر الأول والأهم في كل هذا الجهد الأميركي. وكانت التقديرات والحسابات الخطأ تركز على أن تمسّك واشنطن بشرق سورية بذريعة محاربة إرهاب مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والتصدّي للمشروع الإيراني، يهدف إلى تمركزها الاستراتيجي هناك باسم لاعبين محليين وإقليميين. ولكن ما إن أطلّت إسرائيل برأسها في المنطقة، عبر تفاهمات وعقود وشراكات مع اللاعب المحلي الأقوى في مثلث استراتيجي يجمع الكرد، وبعض العواصم العربية والأوروبية على مقربة من الحدود التركية العراقية الإيرانية، استفقنا متأخرين من سباتنا كالعادة، إذ بات القرار أصعب وأخطر.
في العلن، تريد واشنطن توفير الحماية للكرد. ولذلك هي تعرقل التحركات والتهديدات التركية، لكنها في الحقيقة هي تريد إيصال إسرائيل إلى شرق الفرات، لفتح الطريق أمام تحالف كردي إسرائيلي يقوي تل أبيب إقليمياً ويخرجها من عزلتها. وتتذرّع إدارة ترامب بضرورة إخراج
“تريد واشنطن إيصال إسرائيل إلى شرق الفرات لفتح الطريق أمام تحالف كردي إسرائيلي” إيران من لبنان وسورية والعراق، لكنها غداً ستكرّر الأمر نفسه مع تركيا، لعرقلة خططها ومشاريعها في سورية. وخصوصاً أن عواصم عربية عديدة أبدت استعدادها للتطبيع مع تل أبيب، شرط إبعاد “الخطرين التركي والإيراني”. ومن ردّد على مسامعنا عربياً وكردياً وإسرائيلياً بأن تركيا ستسقط في مصيدة شرق الفرات كان يعرف مضمون الخطة الأميركية التي تبحث عن أسباب كافية لتوتير علاقتها بأنقرة، بعدما حصلت على ما تريده للتصعيد مع طهران. وكانت مهمة عملية نهر الفرات منع المواجهة الكردية التركية، ثم الفصل بين الكيان الكردي وبقية مكونات المجتمع السوري، فباتت وظيفته اليوم تحويله إلى ورقة مقايضة كردية في المساومة مع واشنطن وتل أبيب على تقاسم النفوذ والمصالح في شرق سورية.
ويقلق تركيا اليوم الصمت الروسي الذي يمنع دمشق من الحديث أيضاً عن شرق الفرات، فيما هناك طاولة تفاهمات أميركية روسية لتحديد شكل تقاسم النفوذ والتحاصص هناك. وثمة احتمال أن تكون موسكو التي تقود عملية التصعيد في غرب الفرات تفاهمت على ذلك مع واشنطن، تمهيداً لإنجاز خطة شرق الفرات. وقد بدأت أهداف القمة الأمنية الاستخباراتية الأميركية الروسية الإسرائيلية التي عقدت الشهر الماضي (يوليو/ تموز) في تل أبيب، تتضح أكثر فأكثر على ضوء التطورات الأمنية والسياسية المتلاحقة على جانبي الفرات. وكانت بقيت صفقة منبج التركية الأميركية حبراً على ورق، مع أنها كانت تمنح أنقرة الفرصة للتحرّكين العسكري والميداني. حصلت أنقرة على فرصة ثانية، عندما تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن وعود سحب الجنود من شرق سورية. ومع ذلك، اختارت طريق الدبلوماسية. وتتلاعب واشنطن اليوم بملف صواريخ إس 400 والمقاتلات إف – 35 كما تشاء ضد تركيا، لتقييد حركتها في شرق الفرات.
تردد أنقرة منذ عامين أنّ من يحاول إشغالها بالوعود والمماطلة لن يصل إلى نتيجة، وأنها وصلت إلى نهاية الصبر، والعملية العسكرية في شرق الفرات قد تتم غداً أو ربما قبل ذلك. وأن الذي تتم مناقشته اليوم هو أبعد من ذلك بكثير، إنه الكونفدرالية السورية برعاية أميركية إسرائيلية. لم تفعل أنقرة ذلك يومها، فكيف ستفعله وسط كل هذه العوائق والحواجز والتشابكات الحالية.
بين ما نتلهى به في الداخل التركي اليوم، ملف اللجوء، وسبل مواجهة التوتر السياسي
“النظام السوري لم يعد يهتم بشرق الفرات، أولوياته هي في غرب الفرات” والاجتماعي الحاصل، في حين كانت قناعة بعضهم، ومنذ أشهر، أن الوضع عاجل وخطير في شرق سورية، ويجب التدخل فوراً، وإلا فلن يمكن فعل ذلك أبداً. “إنهم ينفذون مخططاً جيوسياسياً كبيراً للغاية، سيمتد من الحدود الإيرانية العراقية السورية، ويصل إلى البحر المتوسط”، مع إضافة نهري دجلة والفرات إلى السلة الكردية في مناطق الحدود التركية السورية العراقية.
وقد توقفت أصوات تركية كثيرة عند دخول إسرائيل وعواصم عربية على خط التوتر التركي الأميركي في شرق الفرات، عبر تسهيل الاتصالات الأميركية بمشايخ العشائر العربية، والمساهمة في تزويد وحدات مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) بالسلاح والعتاد، والتوسّط بين النظام في دمشق والوحدات الكردية، بهدف فتح أبواب التنسيق ضد أي تحرك عسكري تركي في المنطقة. ولا ينسى أن ثمة أصابع إسرائيلية في الملف، فالغرض هو إيصال إسرائيل إلى هذه البقعة الجغرافية، بعدما تعذر عليها ذلك، عبر تفاهمات مشتركة بين أنقرة وتل أبيب قبل سنوات.
منذ عامين، وأنقرة تردّد أن الأصابع على الزناد أمام جبهتي منبج وشرق الفرات، ولكن لا أحد يصدر الأوامر بإطلاق النار. ما الذي يعنيه قيام أنقرة بعملية عسكرية واسعة في شرق الفرات بعد الآن؟ تغيرت تماماً ظروف ومعطيات ما قبل عامين في شرق سورية: انتهى “داعش”، وحدات حماية الشعب أقوى مما كانت عليه، النظام السوري لم يعد يهتم بشرق الفرات، أولوياته هي في غرب الفرات، بنصائح روسية تعبر ربما عن وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية وبعض العواصم العربية.
الأزمة في شرق الفرات تركية أميركية، لكن أسبابها ونتائجها كردية إسرائيلية بغطاء روسي أميركي. وكانت واشنطن تبحث عن ذريعة لتفجير علاقاتها مع أنقرة في الملف السوري، فأعطتها الأخيرة ما تريد في صفقة صواريخ إس 400 الروسية، وقد يكون الكرملين شارك في ذلك من دون معرفة أنقرة، ولكن على مرأى إسرائيل ومسمعها حتماً.