بعد انتهاء المهلة التي حددتها الولايات المتحدة للانسحاب من معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى مطلع أغسطس/آب الحالي، أصبح مفعول المعاهدة باطلاً، مما شكّل نهاية لمنظومة الأمن الاستراتيجي التي ظلت قائمة منذ عقود، ممهداً الطريق لإطلاق أيدي أكبر قوتين نوويتين لنشر الصواريخ بالقرب من أراضي خصومهما. وعلى الرغم من سعي موسكو لإظهار تمسكها بالمعاهدة وحتى إطلاق تسمية “التعليق” وليس “الانسحاب” على وقف العمل بها، إلا أن ثمة مؤشرات تؤكد تعمّد روسيا والولايات المتحدة للوصول إلى هذه النتيجة، بعد أن ظلتا مقيدتين في مسألة نشر صواريخ غير نووية عالية الدقة ذات مدى من 500 إلى 5500 كيلومتر، وفق ما يوضحه الخبير في العلاقات الدولية فلاديمير فرولوف.
يقول فرولوف لـ”العربي الجديد”: “لم يظهر الجانبان حرصاً على إنقاذ معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، بل بذلا قصارى جهدهما لتوفير التغطية الدعائية لمشروعية روايتيهما لمن هو المسؤول عن تفكيك المعاهدة. كانت لدى الجانب الروسي فرصة لمناقشة خيارات تحديث المعاهدة، ولكنه لم يفعل ذلك. أما واشنطن، فكان لديها في يناير/كانون الثاني الماضي، فرصة لإجراء المشاورات مع روسيا بشأن الاتهامات المتبادلة بخرق المعاهدة، ولكنها امتنعت عن ذلك”.
”
في حال نشوب نزاع عسكري مع الصين، لا تملك أميركا عدداً كافياً من الصواريخ للردّ
” وحول استفادة موسكو من انتهاء مفعول المعاهدة، يضيف: “لم يكن بوسع روسيا تحييد التفوق الأميركي في مجال الصواريخ المجنّحة التي يتم نشرها بحراً وجواً، فلم يعد الاستمرار في الالتزام بمعاهدة الصواريخ البرية يصب في مصلحتها. ليس بغريب أن موسكو أصبحت منذ عام 2003 تمهّد الطريق للانسحاب من معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، ولكن الاتفاقية كانت ترضي واشنطن”.
ويلخّص فرولوف السبب الرئيسي للتحول في الموقف الأميركي، قائلاً: “تغيّر الوضع بالنسبة إلى الولايات المتحدة في عام 2017، حين تبيّن أنه في حال نشوب نزاع عسكري مع الصين، فإن واشنطن لا تملك عدداً كافياً من الصواريخ الجوية والبحرية للتصدي للضربة غير النووية الصينية على القواعد الأميركية في شرق آسيا”. وتملك الصين حالياً 2650 صاروخاً متوسطاً وقصير المدى، أغلبها غير نووية. وفي ظل نشر معظمها في عمق الأراضي الصينية، فإنها تقع خارج مدى الصواريخ المجنّحة البحرية والجوية الأميركية.
من جهته، اعتبر كبير الباحثين بمعهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام، بيوتر توبيتشكانوف، لصحيفة “إر بي كا” الروسية أن قضية نزع السلاح تصطدم بعدم توفر الظروف للمفاوضات بين روسيا والإدارة الأميركية الحالية. وفي مقال بعنوان “فوضى الكلام: كيف يمكن لروسيا والولايات المتحدة العودة إلى نزع السلاح؟”، كتب الخبير الروسي: “لمّا كانت المفاوضات والوثائق الموقعة عليها في سنوات الحرب الباردة، تساعد في تعزيز الثقة بين الجانبين على الرغم من حدوث أزمات حادة بين الحين والآخر مثل الحرب في أفغانستان، إلا أن السياق السياسي اليوم بات يقضي على الثقة في أي أطر ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة”.
”
لم يُظهر الجانبان حرصاً على إنقاذ معاهدة الحدّ من الصواريخ
” وأشار كاتب المقال إلى أن “الجانبين لا يثقان في اهتمام أحدهما الآخر بمراقبة الأسلحة النووية، إذ يعتبر الجانب الروسي أن واشنطن تقوم بكل ما بوسعها لانهيار نظام المراقبة، فيما يرى الجانب الأميركي أن روسيا تنحاز لمبادئ المراقبة على مستوى الكلام فقط من دون نية فعلية لإنقاذ معاهدة الحدّ من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى”. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد وقع في مطلع يوليو/تموز الماضي، قانون تعليق مشاركة روسيا في معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، تاركاً في الوقت نفسه المجال للعودة للعمل بها. وجاء اعتماد هذا القانون رداً على إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي عن انسحاب بلاده من المعاهدة.
وقبيل انتهاء مهلة الستة أشهر على الإخطار الأميركي بالانسحاب من المعاهدة في 2 أغسطس الحالي، أكد مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، على وقف العمل بالمعاهدة. واستندت واشنطن في عزمها الانسحاب من المعاهدة إلى المخالفات الروسية المزعومة، بما فيها نشر واختبار منظومة “إسكندر” للصواريخ المجنحة الأرضية ذات مدى أكثر من 500 كيلومتر، بينما أصرت موسكو على نفي هذه الاتهامات.
يذكر أن موسكو وواشنطن أبرمتا في عام 1987 معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية متوسطة المدى، والتي من شأنها منع إنتاج ونشر صواريخ مجنحة وبالستية أرضية ذات مدى من 500 إلى 5500 كيلومتر، بعد أن باتت مثل هذه الصواريخ أكبر مصدر للخطورة على القوتين المتخاصمتين في حقبة “الحرب الباردة”.
العربي الجديد