قال الشعب اليوناني كلمته في الخامس من يوليو 2015، حينما رفض خطة الدائنين المقترحة وعزز شرعية رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس في مواجهة احتمال الخروج من منطقة اليورو.
في المقابل، تتمسك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الزعيمة الأساسية في الاتحاد الأوروبي، بأهداب الأرثوذكسية النقدية من دون تنبه إلى مخاطر العدوى والانعكاس على العملة الأوروبية الموحدة. بيد أن رمزية اليونان الثقافية والحضارية في تاريخ القارة القديمة، وأهمية الموقع الجيوسياسي لأثينا لهما بعض الوزن في خلاصة اختبار القوة المصيري بين بلاد الإغريق حيث كانت الآلهة تتسلى، وبين أوروبا الرأسمالية المأزومة التي هي بصدد فقدان روحها وتبذير قيمها.
قصة اليونان مع المجموعة الأوروبية (كما كانت تسمى عند دخول أثينا إليها في 1 يناير 1981، قبل أن يصبح الاسم الاتحاد الأوروبي) كانت دوما شائكة. رغم التقرير السلبي الذي أعدته المفوضية الأوروبية التي كان يرأسها جاك ديلور بشأن حيثيات انضمام اليونان وأهليتها، أصر الرئيس الفرنسي، آنذاك، فاليري جيسكار ديستان على الأمر، وقال عبارته الشهيرة “لن ندع أفلاطون ينتظر”. وفي عالم لا علاقة له بمثاليات تصورها أفلاطون لجمهوريته، استفادت أثينا من انعكاسات سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث أسرعت برلين في العمل من أجل “أوروبا جرمانية الطابع” عبر ضم دول شرق أوروبا ووسطها، بعد نهاية هيمنة موسكو، فما كان من باريس للحفاظ على التوازن وعلى دورها القيادي الأوروبي إلا تحفيز دخول دول جنوب المتوسط النادي الاقتصادي الأوروبي، مما فتح المجال لدخول اليونان إلى منطقة اليورو في 2001، من دون التمحيص في البيانات الاقتصادية التي قدمتها الإدارة اليونانية، ومن دون التدقيق في الحالة الفعلية للاقتصاد وإدارته.
الهزة اليونانية لا تخص أثينا وأوروبا لوحدهما، بل هي ارتداد حصل منذ 2009 لذاك الزلزال العالمي الكبير الذي ضرب وول ستريت في سبتمبر 2008 ويومها سقطت الليبرالية المفرطة التي أصبحت سمة العولمة الشمولية، وتبين أن فكرة القوة المطلقة للأسواق ووجوب عدم تقييدها بأي قواعد أو بأي تدخل سياسي كانت فكرة خاطئة تماما. كان البعض يراهن على نهاية دور الدولة الراعية، لكن مع سقوط الاتحاد السوفيتي وبعدها نهاية أنموذج رونالد ريغان – مارغريت تاتشر الرأسمالي، ازداد الاعتقاد بأنه بين الرأسمالية المنفلتة والاشتراكية الموجهة، هناك طريق ثالث يمكن سلوكه.
لم تستخلص اليونان ومنطقة اليورو الدروس من التجارب العالمية ومن مسار التعثر الاقتصادي، ووصلت الأمور إلى التحدي وفوز رهان اليسار الراديكالي في اليونان، لكن المأزق يستمر لأن ألمانيا أخذت تحبذ خروج اليونان من منطقة اليورو إذا لم تقدم الحكومة اليونانية مقترحات دقيقة ومقبولة. من جهته، يبدو الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند حريصا على موقف تصالحي وإبقاء الباب مفتوحا للمباحثات مع التشديد على التضامن الأوروبي وعدم انفراط عقد المحرك الفرنسي الألماني الذي يخشى الكثيرون سقوطه على مذبح الأزمة اليونانية.
منذ نهاية عام 2013، أطلقت مجلة الإيكونوميست البريطانية لقب “الإمبراطورة” على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكم يبدو هذا الوصف صحيحا عندما نراقب منهج المستشارة إزاء أزمة اليونان، أو عندما أصرت، في منتصف مايو الماضي، على قراءتها لتاريخ أوروبا في حضرة القيصر الجديد فلاديمير بوتين، عندما أتت لتهنئه في الذكرى السبعين لسقوط النازية.
في مقاربتها لحل المعضلة اليونانية، ركزت برلين على أن المقترح الأخير للدائنين (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) لليونان كان “سخيا”، وهو المقترح الذي تم رفضه في الاستفتاء من قبل غالبية الشعب اليوناني. ويندرج هذا التقييم في سياق الدفاع عن سياسة نقدية حازمة تلائم اقتصادات متينة مثل الاقتصاد الألماني، ولا تلبي حاجات الاقتصادات المتعثرة. والأدهى من ذلك أن ميركل، ووزير ماليتها، تعاملا من فوق مع الجانب اليوناني، عبر الدعوة إلى بيع الأراضي والجزر والمؤسسات كي يتسنى لأثينا تسديد ديونها. والملفت وجود اصطفاف ألماني داخلي وراء موقف ميركل المتشدد، يقابله إجماع فرنسي على رفض خروج اليونان للكثير من الاعتبارات الاقتصادية والجيوسياسية. وأدى ذلك إلى تراجع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وزعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن عن موقفهما السابق بخصوص وجوب ترك اليونان لمنطقة اليورو.
يتدرج الموقف الفرنسي من التردد إلى رفض تحكم أنجيلا ميركل بقرار أوروبا، حيث أخذت الأصوات ترتفع في هذا الاتجاه وأبرزها للنجم الصاعد بين علماء الاقتصاد، توماس بيكيتي مؤلف كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” الذي يعتبر أن الرأسمالية، بحكم طبيعتها تفاقم عدم المساواة، والذي أدان فرض أوروبا التقشف على اليونان ووصف ذلك بالطريق الخاطئ. وبعد ظهور نتيجة الاستفتاء، هاجم بيكيتي ألمانيا وقال إنها “الدولة المتميزة بعدم تسديد ديونها بعد الحربين العالميتين” وذلك أتاح لها العودة بقوة إلى الساحة الاقتصادية، ويؤاخذ عليها حرمان دولة صغيرة من هذا الامتياز.
لكن ميركل لها قراءتها للتاريخ والوقائع، إذ عندما حاول بوتين تبرير قيام ستالين بتوقيع ميثاق عدم الاعتداء مع هتلر وذلك لتفادي اندلاع الحرب، استنكرت ميركل هذه المقاربة للحظة مصيرية في التاريخ الأوروبي، وركزت على أن البنود السرية في الميثاق الألماني – السوفيتي حول تقاسم بولندا وإلحاق بلدان البلطيق، كانت أعمالا غير شرعية وغير مشروعة.
عبر العودة إلى تاريخ معاصر يلقي بظله على الذاكرة الأوروبية والعالم، لمحت ميركل إلى ما يجري حول أوكرانيا محذرة، على طريقتها، من استمرار بوتين في سياسة الهيمنة المباشرة على الجوار. تدور اللعبة بين بوتين ضابط الأمن السابق في ألمانيا والمتقن للغتها، وميركل المنحدرة من ألمانيا الشرقية وخريجة جامعة كارل ماركس والتي تتكلم الروسية كما في لقاءاتها الثنائية مع بوتين ومن دون مترجم. قبل أزمة أوكرانيا ساد التفاهم بين الطرفين، ومنذ 2013 نشهد لحظة تاريخية جديدة من التجاذب أو النزاع الروسي – الألماني إزاء نفس المدى الحيوي للجوار. أمام سعي بوتين لتصحيح خطأ سقوط الاتحاد السوفيتي حسب وجهة نظره، وحيال دخول واشنطن على الخط لتحجيم الاندفاعة الروسية وعدم الانزعاج من شرخ روسي – ألماني، تجهد ميركل في الدفاع عن انتشار النفوذ الألماني في المدى الحيوي المباشر، وهي تفضل ترتيب تسويات مع الجانب الروسي إذا عاد إلى الواقعية.
ميركل المتربعة على عرش ألمانيا منذ عقد من الزمن، تعتبر بامتياز اللاعب الأقوى في أوروبا اقتصاديا وسياسيا. لكن هذا الصعود يصطدم بعبء التاريخ. ولا يستبعد أن تمتد المبارزة مع بوتين إلى اختبار مع اليونان (الأرثوذكسي كما روسيا، والذي يتقرب رئيس وزرائه تسيبراس من بوتين). بينما وعد الرئيس الألماني بدرس إمكانية دفع تعويضات لليونان عن خسائر الحقبة النازية، رفضت ميركل ذلك حتى لا تفتح الباب أمام أضعاف الهيبة الألمانية من جديد.
تدرك المرأة الألمانية الحديدية أنها ابنة تاريخ عريق وملتبس ومنتكس وحيوي في آن معا، ولهذا تريد ترك بصمتها على تاريخ آخر لألمانيا وأوروبا من بلاد لينين إلى بلاد أفلاطون.
د.خطار أبو دياب
صحيفة العرب اللندنية