موسكو وواشنطن: أنا وعدوّي

موسكو وواشنطن: أنا وعدوّي

349

فوق دماء الشرق الأوسط، والزلزال اليوناني ـ الأوروبي، والحراك الأوكراني، ومفاوضات النووي الإيراني، عاد الحديث عن عقيدتين عسكرية أميركية وروسية، بعد “اضطرار” كل من واشنطن وموسكو إلى اعتبار الآخر “العدوّ الأول” في قائمة الأعداء المفترضين. ومن شأن إعادة ترتيب قائمة الأعداء، إعادة ترسيم حدود عسكرية ـ اقتصادية ـ سياسية، وحتى اجتماعية، شبيهة بقواعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، انتهى زمن السنوات الـ24 التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي (1991)، وأمضتها في صراعات أممية ضد تنظيمات محددة، كتنظيم القاعدة وحركة طالبان، مع بعض الاستثناءات في الحروب ضد دول كالعراق (1999 و2003) ويوغوسلافيا السابقة (1999). أما وريثة السوفييت، روسيا، فخاضت حروباً متفرّقة داخل أراضيها، في الشيشان وداغستان، مع حرب خاطفة في جورجيا (2008).
كان واضحاً في تلك المرحلة أن الدولتين لم تُجابَهَا بتنظيمات أو دول قوية، بل تمكّنتا، كل من جهتها، من فرض شخصيتها العسكرية والسياسية في المواضع التي عادت وخضعت لهما. وكان “من الطبيعي” التجهيز لصدامٍ آخر بينهما، لأسباب عدة، لا يبدأ من فشل تكوين عالم متعدد الأقطاب، ولا ينتهي بانعدام قدرة طرف ثالث على مقارعتهما سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وكان الصدام حتمياً لعامل أساسي: وجود رئيس روسي “قوي”.
احتاجت روسيا لشخص، مثل رئيسها الحالي فلاديمير بوتين، لتعبئة فراغٍ قيادي ـ قومي، اندثر مع سقوط الحزب الشيوعي ولجنته المركزية، على وقع “بيروسترويكا” و”غلاسنوست” آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشيف. وسعَت معه، على عجلة، للحاق بالقطب الأميركي، الذي بدوره لا يحتاج إلى “قائدٍ” ما، بقدر ما يحتاج إلى موقف داخلي موحّد بين الجمهوريين والديمقراطيين، يُجسّده الكونغرس.
وعلى الرغم من أن بوتين من الخلفية الاستخباراتية نفسها، نجح في الإمساك بالداخل الروسي، غير أنه فشل، حتى الآن، في فرض إيقاعه على العالم، أقلّه على جيرانه. أوقع الرجل نفسه في قالبٍ قومي، لا يُرضي سوى الروس، مع بعض الحالمين بـ “مجدٍ سوفييتي غابر”. وهو ما أدى إلى تضعضع الانطلاقة الفعلية لـ “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”، المفترض أن يكون “اتحاداً أوروبياً” للجمهوريات السوفييتية السابقة. لبعض تلك الجمهوريات ذكريات حزينة مع موسكو، لا ترغب في استعادتها، وإن كانت مصلحتها الاقتصادية أقرب إلى الجار الروسي منه إلى الأوروبيين أو الصينيين أو حتى الأميركيين. بالتالي، لا يزال “الاتحاد الأوراسي” يحتاج إلى ضخّ المزيد من الثقة بين أعضائه أولاً، قبل دعوة دول جديدة للانضمام إليه ثانياً، خصوصاً أن خطابات بوتين “القومية” في شبه جزيرة القرم وموسكو لا تُطمئن حلفاءه.
من جهة الأميركيين، فإن تراجعهم الميداني في العراق وأفغانستان في عهد الرئيس باراك أوباما، سمح لهم بالتركيز على ساحة جديدة، بعيدة عن الشرق الأوسط: ساحة جنوب شرق آسيا، التي تجاوزت أزمة العام 1998 المالية، وباتت في وضع يؤهلها لتأدية دور اقتصادي هائل في العقود المقبلة. ليبدأ الأميركيون التركيز في تلك المنطقة على الصين، كعدوّ، أو في أحسن الاحتمالات، كشريك غير مرغوب فيه مستقبلاً.
لكنْ، الأميركيون لا يودّون الذهاب إلى هناك قبل حسم موقفهم من الروس، وهو ما أعاد الزخم إلى العقلية العسكرية للبلدين، ما يعني ضرب عصفورين بحجر واحد بالنسبة لواشنطن: لإضعاف الكيان الأوروبي عبر الإيحاء بأن المواجهة مع روسيا أكبر من مجموعة بروكسل من ناحية، وتكريس الحاجة للقارة العجوز كممرّ إلى الشرق الآسيوي من جهة ساحل المحيط الأطلسي، لا كقطب نجح لـ11 عاماً (1999 ـ 2008) على الصعيد الاقتصادي قبل بدء الاهتزاز من ناحية أخرى.
وتسمح العقيدة العسكرية لموسكو وواشنطن في إشباع غرورهما معاً، فتعود الولايات المتحدة إلى إبراز عقلية “قائدة العالم الحرّ”، وتتحقق أمنية روسيا في العودة كقطب آخر. أما الاتحاد الأوروبي ودول البريكس والصين ومنظومات إقليمية، فليست سوى كومبارس، وصغير.

بيار العقيقي

صحيفة العربي الجديد