بات من الواضح أن هناك سباقاً استراتيجياً بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب والقيادة الإيرانية، بدأ مع إعلان واشنطن خروجها من الاتفاق النووي ومن المتوقع أن يستمر حتى انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
الخطة الأميركية التي أطلقها ترمب منذ انسحابه من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018، والخطوات التي اتخذها حيال طهران من إدراج حرسها الثوري على لائحة الإرهاب، وتفعيل العقوبات، وتعزيز الوجود العسكري في الخليج، تتقدم رويداً رويداً، وهدفها رفع الضغط على الإيرانيين إلى الحد الأقصى على أمل تراجعهم على الأرض لتفادي خطوات أخرى موجعة، والقبول بمفاوضات أساسها التخلي عن بعض مشاريعهم كالسلاح النووي والصواريخ الباليستية والتمدد في الشرق الأوسط.
بريطانيا تنضم رسميا إلى مهمة بحرية في الخليج بقيادة أميركية
وإلى جانب ترمب، فقد أشرف على وضع هذه الخطة كل من مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو والأجهزة الاستخبارية، وهي تعتمد على التدرج وتأخذ في الحسبان حصول نتائج ملموسة يمكن للرئيس استخدامها كأجندة له في الحملة الانتخابية المقبلة، ولذلك نرى نشاط بومبيو المكثف وزياراته إلى المنطقة بقصد حشد طاقات التحالف العربي، وتأمين التنسيق مع الدول الشرق أوسطية الأخرى، والتواصل الأميركي مع دول أوروبية اشتركت في مؤتمر وارسو الذي هدف إلى قيام تحالف دولي كبير لعزل النظام الإيراني، وهذه العوامل مجتمعة توضح أن خطة ترمب ترمي إلى تنفيذ الغايات المرجوة منها من دون أن تعكرها ردود الفعل الإيرانية، ما يفسر عدم الرد المباشر على إسقاط طائرة الدرون، وهدوء التحركات الأميركية في سوريا والعراق، بالتزامن مع إرسال تعزيزات عسكرية إلى السعودية.
ويريد ترمب السير بخطته من دون الرضوخ لأي تحرك إيراني إرهابي، والخروج منتصف عام 2020 لإعلان نجاحه في تطويق النظام على الرغم من الانسحاب من الاتفاق النووي، وتنتهي هذه الخطة يوم الانتخابات الرئاسية، وبعدها يتمكن الرئيس الأميركي من الدخول في المرحلة الثانية الحاسمة ضد إيران، في حال فوزه.
أمام هذه الخطة الاستراتيجية، تقف القيادة الإيرانية أمام مفترق طرق تاريخي، فهي قد تحاول إسقاطها وفق توقيتها هي عبر تصعيد تحركاتها ضد ناقلات النفط والسفن، وإطلاق تحد واضح ضد الانتشار الأميركي، ومحاولة تطويقه في العراق وسوريا، وتوجيه ضربات إلى حلفاء واشنطن كالسعودية والإمارات والبحرين، كي تتفلّت من الطوق الأميركي المتزايد.
لكن قيادة طهران لديها مسار آخر تريد المحافظة عليه كي لا تفرط بأوراقها العسكرية، وتكشف نفسها وتعطي ترمب فرصة ذهبية في وقت تكون عاجزة عن الحسم، ويخول الرئيس الأميركي إعلان انتصاره من دون تحمّله أي تداعيات ناجمة عن الانسحاب من الاتفاق النووي، واستثمار تقدمه بعد عام من الآن، وهي لا تريد إعطاءه فرصة ناتجة من أعمال استفزازية غير محسوبة تمكنه من تجييش الناخبين وتحقيق انتصار ساحق في الانتخابات، ما يسمح له بإكمال خطته الاستراتيجية، وهذه المرة لن تكون هناك ضوابط لفرملتها، فالخمينيون يخافون ترمب بعد عام 2020 وليس قبله، وبناء على تحليلاتهم يتعاطون بحذر مع الخطة ويحاولون إضعافها، وإشغالها، ورمي الكرة من الشرق الأوسط إلى الداخل الأميركي لتتلقاها المعارضة الأميركية علّها تتمكن من الاستفادة من النكسات التي بإمكان إيران إلحاقها بخطة ترمب، واستخدامها في الداخل، ولذلك يُطرح السؤال، على ماذا ترتكز إيران للتدخل والتأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبالتالي إسقاط ترمب والإفلات من ضربته الآتية، إذا حصل انتخابه؟
أولاً، تعمل إيران على مشاغلة واشنطن في الشرق الأوسط من دون الانقضاض عليها لسبب معروف وهو عدم قدرة القوات الإيرانية على توجيه ضربة حاسمة ضد الأميركيين، شبيهة بضربة اليابانيين في بيرل هاربر عام 1941، فواشنطن لها قدرة استراتيجية على معرفة تحركات إيران قبل تحريك قواتها على الأرض، ومع ذلك يمكن للقيادة الإيرانية إطلاق موجة من العمليات المزعجة مثل خطف ناقلات نفط، أو تنفيذ هجمات محدودة ضد واشنطن وحلفائها عبر وكلائها، واستخدام البروباغندا الإعلامية للترويج لهذه العمليات، وإظهار طهران وجماعاتها بمظهر قوي يمكنّها من توجيه رسائل بأنها تدافع عن نفسها من دون الاكتراث للوجود الأميركي، ويُمكن لهذه الأعمال المحدودة أن تفيد المعارضة الأميركية التي ستسعى إلى استخدامها ولو بشكل رمزي للقول للأميركيين إن خطة ترمب ضد إيران غير ناجحة، والزعم بأن سياسة أوباما أفضل بكثير.
وبالتوازي مع هذا التكتيك، ستعمد الماكينة الإعلامية الإيرانية إلى تشويه صورة حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، إذ تتلقف قوى المعارضة هذه الفرصة لتصوّر ترمب على أنه شريك لقوى سلبية، وبدأنا فعلاً نرى هذه الموجة، إذ حاول معارضو الرئيس منع الإدارة من بيع أسلحة إلى السعودية والإمارات تستخدمها في اليمن، والحؤول دون تقديم المساعدة للدولتين في هذه الجبهة.
وهناك أيضاً محاور أخرى تعمل إيران باتجاهها، كاستخدام مسألة الأقليات خصوصاً المسيحية عبر الزعم أن إدارة ترمب بوقوفها إلى جانب التحالف العربي والأكثرية السنية في المنطقة، تؤثر سلباً في الأقليات التي تحميها إيران ونظام بشار الأسد.
إذاً، السباق اليوم هو بين الكمّاشة الأميركية التي تأمل في إضعاف إيران إلى حد يمكن لترمب المرشح أن يعلن للرأي العام الأميركي والعالمي نجاح خطته، واستراتيجية طهران التي تقوم على مبدأ مواجهة التقدم الأميركي، وتوجيه رسائل إلى الداخل للقول إن سياسة البيت الأبيض فشلت، وسنرى مَن من الفريقين سيربح الانتخابات في نوفمبر 2020.
اندبندت العربي