أزمات لبنان أكبر من التركيبة الحاكمة والقوة المتحكمة، والرياضة الوطنية هي الهرب من معالجة الأزمات ومواجهة التحديات إلى السجالات، وليس غريباً أن يدور السجال هذه الأيام حول اتفاق الطائف الذي دارت حوله معارك في الماضي، ولا أن يلجأ تجار السلطة إلى نبش القبور في مرحلة ما قبل الطائف في محاولة لتمييز أنفسهم عن تجار الحرب وهم واحد. الغريب أن تدور السجالات على اتفاق صار دستوراً، ولم يحصل تطبيق بنوده المهمة، والأغرب أن يتبارى المختلفون على الطائف بالوقوف وراءه والتزامه.
عام 1989 ذهب أعضاء المجلس النيابي إلى مدينة الطائف السعودية للبحث في تسوية سياسية توقف حرب لبنان، كانت المبادرة من قادة السعودية والمغرب والجزائر، وهم أركان لجنة ثلاثية كلفتها الجامعة العربية مساعدة اللبنانيين في مساعدة أنفسهم، وكان لدى فريق من النواب شيء من مرارة الهزيمة غير المعترف بها، ولدى فريق آخر شيء من نشوة انتصار لا مصلحة في إعلانه، وعلى صورة الحرب ومثالها جاءت التسوية، الحرب كانت محلية وإقليمية ودولية، والتسوية جاءت محلية وعربية ودولية، أميركا كانت أيضاً في الطائف، وسوريا كانت هناك. وحين تعثر التفاهم على نقطة دقيقة وحساسة، فإن الأمير سعود الفيصل طار إلى دمشق لترتيب حل مع الرئيس الراحل حافظ الأسد.
كانت المناقشات صعبة، النواب داخل الاجتماعات محكومون بمراعاة من هم في الخارج، في بيروت وعواصم عدة، كان بينهم من يطلب تغييراً جذرياً في النظام، ومن يريد تفادي أي تغيير كبير، وكان في بيروت من يرفض أي اتفاق ضمن موازين القوى، لكن الكبار “هندسوا” اتفاق الطائف على أساس موازين المصالح لا مجرد موازين القوى، فهم يحرصون على الطابع الخاص للبنان وأهمية الحفاظ عليه في المنطقة، وهم يدركون أن التغيير الجذري في النظام رحلة في المجهول الخطير.
ولذلك جرى التركيز على الإصلاح والتغيير في آلية عمل السلطة لا في بنية النظام… المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بصرف النظر عن العدد، والسلطة التي كانت تُناط برئيس الجمهورية صارت تُناط بمجلس الوزراء، وتشكيل هيئة وطنية مهمتها أن تقترح بعد الدراسة “الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية”، تمهيداً لإلغاء الطائفية السياسية.
والدرس كان مكتوباً على الجدار قبل الحرب: قادة المسلمين يطالبون بإلغاء الطائفية السياسية، وقادة المسيحيين يردون بالدعوة إلى العلمانية، وكل شيء يبقى على حاله، فلا أحد يجهل أن إلغاء الطائفية السياسية من دون تجاوز الطائفية يعني الاحتكام إلى العدد والغلبة، وليس بين أهل الحل والربط من يريد المغامرة بما اختصره تيودور هانف في كتاب “حرب الألف عام” بالانتقال من صراع على “مغانم قابلة للاقتسام” إلى الصراع على “مبادئ غير قابلة للاقتسام”.
لكن تشكيل الهيئة الوطنية بقي حبراً على ورق، والراعي السوري الذي سلّم الجميع له بإدارة اللعبة في لبنان بعد اتفاق الطائف أدارها على الطريقة السورية: تنفيذ ما يهم دمشق من الاتفاق، وعدم تنفيذ ما تراه أطراف لبنانية البديل من خسارة بعض السلطة.
وما حدث هو السير في الاتجاه المعاكس، بدل المسار التدرجي لتجاوز الطائفية ثم إلغاء الطائفية السياسية وإقامة الدولة المدنية، وتسارع السير على مسار تعميق الطائفية والمذهبية، وهذا جزء من المناخ الخطير في المنطقة منذ عام 1979 وبروز المشروع الإقليمي لجمهورية رجال الدين في إيران، وظهور تنظيم “القاعدة” ثم تنظيم “داعش” والاندفاع التركي نحو الخروج من النظام العلماني الذي أرساه أتاتورك، للرهان على قيادة “الإخوان المسلمين” في المنطقة، ألم يكن تيودور مونو على حق بالقول “إن الصحارى هي صحارى بسبب المناخ لا بسبب التربة”؟
مفهوم أن الديموغرافيا ليست لمصلحة المسيحيين الذين قيل أخيراً إنهم صاروا 30 في المئة من سكان لبنان مقابل 70 في المئة من المسلمين، ومفهوم أيضاً أن موازين القوى باتت تميل إلى مصلحة الشيعة، وأن هناك من يقول إن الظروف التي أعطت اتفاق الطائف تغيرت، ولا بد من “مؤتمر تأسيسي”، لكن المناصفة ليست منحة بمقدار ما هي رأس الحكمة والاعتراف بالخصوصية اللبنانية.
ذلك أن لبنان هو الاستثناء في العالم العربي… لا دين للدولة في الدستور مثل بقية الدساتير بل احترام جميع الأديان، ولا مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية، بل عيش مشترك بالمعنى السياسي لا فقط بالمعنى البيولوجي.
كان محمد حسنين هيكل يصف لبنان بأنه “الشرفة الجميلة للعالم العربي”. وفي زيارته الأخيرة إلى بيروت قبل رحيله، سأل خلال غداء مع مجموعة مفكرين وصحافيين “أين مصنع الأفكار والمختبر والمرصد” الذي عرفته في لبنان؟ الجواب كان حزيناً وشاملاً الأمة، من المحيط إلى الخليج.
اندبندت العربي