يمكن القول إنه عندما قرر الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفنسجاني الترشح للسباق الرئاسي عام 2005، لم يكن قراراً عبثياً أو من منطلق العودة إلى مراكز القرار. فهو لم يكن بعيداً من دائرة صنع القرار في النظام وكان في أوج شراكته مع المرشد الإيراني في ذلك، بل كان الهدف من ذلك، وبعد إدراكه نوايا الدوائر الخلفية في النظام، خصوصاً المؤسسة العسكرية إيصال مرشحها محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة السلطة التنفيذية والجمهورية، هو قطع الطريق على تدمير البعد “الجمهوري” في النظام لصالح البعد “الإسلامي”، وما يعنيه ذلك من ضرب لآخر تعبيرات الديمقراطية التي تحفظ الحد الأدنى لدور الشعب في اختيار ممثليه في السلطات التنفيذية والتشريعية. وكانت النتيجة أن هُزم “جنرال النظام والثورة” أمام “الجندي” الذي شكل واجهة تقف وراءه المؤسسة العسكرية بكامل عديدها وعتادها.
وفي عام 2009، عندما قرر الرئيس السابق محمد خاتمي العودة إلى السباق الرئاسي- ثم انسحب لصالح مرشح مدني هو مير حسين موسوي- لم يكن مدفوعاً برغبة العودة إلى السلطة، فقد سبق له أن أقسم أن لا يعود إليها بعد انتهاء ولايته، إلا أن الهدف هذه المرة، وإن كان يلتقي مع المحرك الذي دفع رفسنجاني إلى خوض المعركة الانتخابية، كان أكثر وضوحاً، ويرمي بشكل علني إلى قطع الطريق على “عسكرة الدولة” والحفاظ على مدنيتها، بعدما لمست قوى المجتمع المدني والسياسي الإيراني، المسار الذي بدأت تتبلور معالمه في الدورة الأولى لرئاسة أحمدي نجاد بالحضور الواضح والصريح للمؤسسة العسكرية في مفاصل القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي داخل الدولة ومؤسسات وفي المجتمع.
السنوات الست من رئاسة أحمدي نجاد، أي الدورة الأولى ونصف الدورة الثانية، شكلت المرحلة الذهبية لسيطرة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية، مستفيدة من “العنتريات” التي مارسها أحمدي نجاد في التعامل مع المجتمع الدولي وسياسة التصعيد بوجه الضغوط الدولية، خصوصاً الأميركية، التي أخذت بعداً دولياً من خلال فرض عقوبات اقتصادية خانقة ضد إيران عبر مجلس الأمن الدولي بمعدل أربعة قرارات كادت أن تضع إيران تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وقد أسهم في تصاعد هذا الحصار، انكفاء أحمدي نجاد عن الملفات الإقليمية والتخلي عنها لصالح مؤسسة حرس الثورة خصوصاً فيلق القدس، الذي وسّع دائرة نشاطاته ودوره ونفوذه في الإقليم على حساب الدور السياسي للحكومة الإيرانية، وقد برز ذلك في الحرب التي شهدها لبنان في تموز 2006 التي تتفق الأوساط السياسية والدولية على أنها كانت حرباً بالإنابة قام بها حزب الله اللبناني مع إسرائيل لإبعاد شبح إمكانية حصول ضربة عسكرية أميركية ضد إيران بسبب برنامجها النووي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش.
بعد وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية عام 2013، والكشف عن مسار المفاوضات السري بين واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووي، الذي انتهى بالتوقيع على الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 في يوليو (تموز) 2015، وعلى الرغم من الترحيب الذي أبداه روحاني بهذا الاتفاق والرهان على الانتقال بإيران إلى مرحلة جديدة من النمو الاقتصادي والانفتاح السياسي على المجتمع الدولي، التزمت المؤسسة العسكرية الصمت عن هذا الاتفاق وسعت إلى الدفاع عن مكتسباتها التي سبق أن حققتها على جميع المستويات، وكان ردها على الشعار الذي رفعه روحاني بعد الاتفاق بأن “المرحلة هي للحوار وليس للصواريخ” وبأن ارسلت أربعة صواريخ بعيدة المدى أُطلقت من إيران في اتجاه منطقة دير الزور في سوريا. الأمر الذي كاد يفجر النظام من الداخل بسبب الصراع الذي بدأ بالخروج إلى العلن بين مؤسسة الدولة ممثلة بالسلطة التنفيذية ورئيسها حسن روحاني والمؤسسة العسكرية، ممثلةً بحرس الثورة ومصالحه الداخلية والإقليمية.
الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية محمد جواد ظريف في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد قرار وزير الخزانة الأميركية إدراجه على لائحة العقوبات الأميركية بسبب دعمه جهود بعض المنظمات الإرهابية – حرس الثورة – لم تصدر من فراغ، فتأكيده أنه على استعداد للتوقيع “على تعهد خطي” بعدم الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2021، جاء تعبيراً عن حجم الضغوط التي يتعرض لها داخلياً بسبب تصاعد المخاوف لدى فريق داخل النظام من أن يتولى ظريف هذا المنصب بعد روحاني، وما يعنيه من تغليب البعد الدبلوماسي والحواري الذي لم يستطع أي من هذه الأطراف إنكار براعة ظريف في استخدامه لإبعاد كثير من الأخطار عن إيران في هذه المرحلة الدقيقة من المواجهة التي تخوضها مع الولايات المتحدة الاميركية. وبالتالي، فإن وصول ظريف إلى رئاسة الجمهورية يعني ترجيح منطق الدولة وأن المرحلة المقبلة لا بد من أن تشهد تقليصاً لدور المؤسسة العسكرية ونفوذها في فرض توجهاتها على سياسات الحكومة ومصادرتها في كثير من الأحيان.
الزيارة التي قام بها قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني بالزي العسكري إلى ظريف في مقر وزارة الخارجية، حملت كثيراً من الرسائل والأبعاد، فهي جاءت قبل المؤتمر الصحافي لظريف وقبل زيارة رئيس الجمهورية لهذه الوزارة، وحرص سليماني في الخبر الذي عُمّم حول هذه الزيارة على التأكيد أنها ليست الزيارة الأولى، بل هي زيارة أسبوعية تجري كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع، في محاولة للإيحاء للرأي العام الداخلي والدولي بوجود تنسيق تام ومستمر بين الجهاز الدبلوماسي في الحكومة الإيرانية وبين المسؤول الأول عن الملفات الإقليمية لإيران، وأن الجهاز العسكري يسهم بشكل أساس في رسم السياسات الرسمية للحكومة الإيرانية وفي صوغ المواقف الدولية.
هذه الزيارة ومحاولة الإيحاء بهذا المستوى من التنسيق بين الدبلوماسية والعسكر، لم يساعد في تخفيف الهجوم والانتقادات اللّذين يتعرض لهما ظريف من الفريق المعارض على خلفية المخاوف من طموحات ممكنة لرئاسة الجمهورية، وهي طموحات يراها هذا الفريق مشروعة لشخصية عسكرية وتحديداً قاسم سليماني، خصوصاً بعدما صنّف الرئيس الأميركي دونالد ترمب حرس الثورة منظمة إرهابية، وأن الرد على الموقف الأميركي يمر عبر تولي شخصية عسكرية من الحرس منصب الرئاسة.