الصين هاجس أميركا أكثر من روسيا. لا أيام العداء والإنكار فحسب، بل أيضاً أيام الاعتراف والتفاهم. في الألفية الأولى كانت الصين على قمة العالم في الحضارة وتمثل في القوة ما تمثله أميركا اليوم. في الألفية الثانية تمكنت القوى الأوروبية المهجوسة بالصين من إضعافها وإغراقها بحروب الأفيون. وفي بداية الألفية الثالثة صارت الصين القطب الوحيد المنافس لأميركا على قمة العالم اقتصادياً ثم عسكرياً. وليس “تزلج” الرئيس دونالد ترمب في العلاقات مع الصين بين “الشراكة الإستراتيجية” و”المنافسة الإستراتيجية” سوى فصل في كتاب أسلافه. والفارق هو أن ترمب يلعب بمنطق تاجر مقاول، فيما لعب الرؤساء السابقون بمنطق استراتيجي. و”أسوأ أنواع الحكومات هو الذي يدار بأهداف التجارة” كما قال آدم سميث، أب الرأسمالية.
عام 1949 عندما انتصرت ثورة ماو تسي تونغ الشيوعية وتراجع الجنرال شيانغ كاي تشيك إلى تايوان دار في أميركا سجال حول “من خسر الصين؟”. ويروي كيڤن بيراينو في كتاب جديد عنوانه “قوة سريعة: ماو، ترومان، وولادة الصين المعاصرة” أن الدعوات ارتفعت في الكونغرس إلى الوقوف ضد ماو كما حدث مع ستالين في أوروبا. لكن وزير الخارجية دين اتشيسون ومساعده جورج كينان اعتبرا أن “بيت تشيانغ كاي تشيك سقط في ظل الفساد” وأن “انتصار ماو نتيجة مد عميق ضخم لقوى محلية فوق قدرتنا على السيطرة”. والنتيجة رفع شعار “الكبح الإستراتيجي” وممارسة “استراتيجية متحركة، لا مع ولا ضد”. ثم رفضت واشنطن الاعتراف بـ”الصين الشعبية” مستمرة في الاعتراف بـ”الصين الوطنية” حتى دقت الساعة للتغير في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
والشائع أن الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره الدكتور هنري كيسنجر هما اللذان بادرا إلى الانفتاح. لكن سيرغي رادشنكو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كارديف يعيد تسليط الضوء على ما قاد إلى الانفتاح. ففي عام 1969 حدث صدام عسكري بين روسيا والصين على الحدود عند نهر يوسوري. وفي اجتماع قيادي، كما روى رادشنكو، سأل ماو: ما العمل؟ الماريشال تشن يي طرح فكرة غير مألوفة: “السوفيات أقوى منا، والحل هو الانفتاح على أميركا”. عام 1970 طلب ماو من كاتب سيرته إدغار سنو توجيه دعوة إلى نيكسون الذي التقط الفكرة وأرسل كيسنجر في زيارة سرية إلى بكين، ثم زارها هو رسمياً عام 1972 حيث قال له ماو “أنت الزميل الجيد الرقم واحد في العالم”. و”أنا معجب باليمينيين لأنهم يطبقون ما يكتفي اليساريون بالحديث عنه”. وبالطبع فإن موسكو أشعلت الضوء الأحمر. دعي نيكسون لزيارتها. ثم زار بريخيف واشنطن عام 1973 وقال لنيكسون “الصينيون مهووسون ومتوحشون وأنتم في حاجة إلى السوفيات”. ثم قال لكيسنجر على انفراد “أنتم شركاؤنا، ونحن وأنتم سنحكم العالم”.
وهكذا ربحت أميركا في اللعب بين البلدين الشيوعيين الكبيرين، مستخدمة مثلاً صينياً قديماً: “الجلوس على قمة الجبل ومراقبة قتال نمرين”، الصين وروسيا، في تحالف استراتيجي. وترمب يقاتل على جبهة مع الرئيس شي جينغ، وعلى جبهة مع الرئيس فلاديمير بوتين، من دون أن ينسى زكزكة اليابان وكوريا الجنوبية وشركائه الأوروبيين في الحلف الأطلسي. فهو يفرض على روسيا عقوبات اقتصادية وينسحب من اتفاق الحد من تطوير الصواريخ متوسطة المدى، حيث يلوح بوتين بسباق جديد للتسلح. ويندفع في ثلاثة حروب مع الصين: حرب تجارية، حرب عملة، وحرب نشر صواريخ في آسيا تبدو الصين فيها مالكة أوراق قوية.
لكن الحرب الباردة الجديدة مع الصين تختلف عن تلك التي كانت مع الاتحاد السوفياتي. فالتداخل كبير في الاقتصادين الأميركي والصيني. وبكين توظف تريليونات الدولارات في سندات الخزينة الأميركية، وهي لا تزال في حاجة إلى التكنولوجيا الأميركية. وليس سراً أن الصين تصف الذين يسرقون لها التكنولوجيا الأميركية بأنهم “اللصوص الوطنيون”. وحين يرفع ترمب الرسوم التجارية على الواردات من الصين، فإنه يتجاهل ما حذّرهم منه بول كروغمان الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، وهو أن المستهلك الأميركي من يدفع الثمن، لا المصدر الصيني. فضلاً عن أن سلسلة مقالات حول أميركا والصين وروسيا نشرتها مجلة “فورين أفيرز” انتهت إلى أن “روسيا والصين تشاركان في النظام العالمي ولسيتا عدوتين من خارجه، واللعبة يجب ألا تكون صفرية”. والمعادلة هي “تعاون محدود إلى جانب عداء مكثف وصراعات جديدة”. فما كان قبل ترمب لن يستعاد بعد ذهابه، لأنه “شذوذ تاريخي” جاء من خلال تركيبة ظروف وشروط ملائمة لأميركا لا يمكن الحصول عليها ثانية: وحدة شعبية نسبية في الداخل، وغياب خصوم جديين في الخارج.
وليس لدى ترمب ولا لدى منافسيه الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية حلول حتى لـ”الإرهاب الأبيض” الذي يضرب أميركا.
اندبندت العربي